حجية الاستحسان وعدمه

من ویکي‌وحدت

حجية الاستحسان وعدمه: اختلف الفقهاء والمجتهدون في حجية الاستحسان و عدمه، وهذا بحثٌ عريق في علم أصول الفقه منذ زمن الصحابة إلی الآن ينبغي أن نشير إلی استدلالاتهم نفياً وإثباتاً.

أدلَّة القائلين بالاستحسان

ذكرت أربعة أدلة على الاستحسان، هي من القرآن والسنّة و الإجماع والعقل.

التمسّک بالكتاب علی حجية الاستحسان

أمَّا أدلتهم من الكتاب، فالآية الكريمة: «الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ»[١] والآية الكريمة: «وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم»[٢]
تقريب الاستدلال: الاستحسان: هو اتّباع الأحسن والأخذ بالأحسن، وهو ما تفيده الآيتان سالفة الذكر، فالآية الأولى تمتدح الذين يتبعون الأحسن من الأقوال، وهذا يعني إضفاء شرعية وحجّية على اتّباع أحسن الأقوال. [٣] والآية الأخرى تطلب من المسلمين اتّباع الأحسن ممَّا أنزل إليهم، فلابدَّ وأن يكون الأحسن حجّة لتأمر به.[٤] لكن الآيتين لاتمتّان إلى الاستحسان بصلة تفسيرا أو مجاراة. والآية الأولى استعملت لفظ (الأحسن) في مفهومه اللغوي، الذي لا علاقة له بالمعنى الاصطلاحي، مع أنَّ المعنى الاصطلاحي مختلف فيه، ولا جامع بينهما لكي يحمل عليه. [٥] كما أنَّها تتضمَّن الأخذ بالأحسن دون المستحسن، والأحسن هو ما جاء في الكتاب والسنّة لا غيرهما[٦]، أي أنَّ الأحسن مقيَّد بما هو منزَّل[٧]، أو مأمور به[٨]، لا مطلقا، ولو كان مطلقا لزم اتّباع استحسان العامي والطفل والمعتوه كذلك. [٩]
أمَّا الاستدلال بالآية الثانية، فيرد عليه ما يرد على الأولى، مضافا إلى أنَّها قد صرَّحت بأنَّ الأحسن ما أنزل فلا يشمل كلّ أحسن ولو لم يكن غير منزّل. [١٠] وعلى فرض كون الاستحسان أحسن، فإنَّه لا دليل على كونه منزَّلاً. [١١]
وممّا استدلّ به من الآيات هو الآية الكريمة: «يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَيُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ»[١٢]؛ وذلك باعتبار أنَّ الأخذ بالاستحسان من مصاديق ترك العسر إلى اليسر، وهو أصل في الدين. [١٣] لكن الاستدلال بالآية واضح البطلان من حيث إنّها أخصّ من المطلوب، فقد تفيد الإباحة والترخيص في الأخذ باليسير، لكن ليس ذلك على نحو الإطلاق، فهي تفيد الأخذ باليسير الذي له مبرّر شرعي ويعدُّ دليلاً شرعيا لا مطلق اليسير ولو لم يكن له مبرِّر شرعي، بينما الكلام هنا عن أصل شرعية الاستحسان وتبريره الشرعي، ولو ثبتت الشرعية فلا نشكّ في الأخذ به.

التمسّک بالسنّة علی حجية الاستحسان

أدلتهم من السنّة ما نقله ابن مسعود عن الرسول(ص)، حيث قال: «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند اللّه حسن».[١٤] يرد على الاستدلال به مايلي:
أولاً: أنَّه خبر موقوف على ابن مسعود، ولم يسند إلى الرسول(ص)[١٥]، وربَّما كان كلاما لابن مسعود لا حديثا شريفا. [١٦]
ثانيا: لفظ الاستحسان بمعناه المصطلح من الألفاظ المستحدثة بعد ابن مسعود، فلا يمكن تفسير المعنى المزبور به. [١٧]
ثالثا: على فرض كونه واردا عن الرسول فهو خبر واحد، ولا تثبت به الأصول. [١٨]
رابعا: أنَّه إشارة إلى إجماع المسلمين[١٩]، أي ما رآه جميع المسلمين[٢٠]، وبذلك يكون دليلاً على حجّية الإجماع لا الاستحسان. [٢١] وقد يقال بأنّ الحديث إشارة إلى قاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع[٢٢]، وهو ـ عندئذٍ ـ غير مؤهَّل للاستدلال به على الاستحسان.

التمسّک بالإجماع علی حجية الاستحسان

الدليل الثالث هو الإجماع، وذلك من خلال ما قيل من إجماع الأمة على استحسان دخول الحمام من غير تقدير عوضٍ للماء المستعمل، ولا تقدير مدة المكث فيه، وتقدير أجرته، واستحسان شرب الماء من أيدي السقائين من غير تقدير في الماء وعوضه. [٢٣]
لايبعد اتفاق المسلمين على هذه الموارد المذكورة؛ لعدم وجود مخالف حسب الظاهر، لكن من المحتمل أنّ دليل هذه الأحكام الإجماع في مواردها بالخصوص، أي أنّ المسلمين أجمعوا على شرعية ما تقدَّم، وعندئذٍ تخرج هذه الموارد عن موضوع الاستحسان لتدخل في الإجماع. [٢٤]
ومن المحتمل كذلك أن تكون سيرة المسلمين قائمة منذ عهد الرسول صلىاللهعليهوآله وحتى الآن على ما تقدَّم من الأمور، وهي سيرة ممضاة من قبله؛ لأ نّه لم يرد ردع منه عليها. هذا مضافا إلى وجود قرينة حالية تدلُّ على أنَّ مقدار الماء المستهلك لابدَّ وأن يكون متعارفا، والبناء في المعاملة على ذلك المقدار، وإتلاف الأكثر منه يستلزم ضمان عوضه. [٢٥] ولايمكن نفي أيٍّ من هذه الاحتمالات، كما لم يُطرح دليل خاص على إثبات كون شرعية الأمور الماضية حاصلة بالاستحسان، ولإثبات ذلك لا بدَّ من دليل غير ما مضى.

التمسّک بالعقل علی حجية الاستحسان

وقد يذكر دليل رابع عقلي على الاستحسان، وهو أنَّ منشأه أحد الأدلّة المتّفق عليها، وهي القرآن والسنّة والإجماع والقياس (كما تقدّمت الإشارة إلى ذلك) وإذا كانت تلك حجّة فالاستحسان حجّة كذلك.
وردّ هذا واضح، من حيث إنَّ الاستحسان إذا كان أحد الحجج المزبورة فيخرج عن كونه دليلاً مستقلاً ويندرج في تلك الأدلّة، بينما الكلام هنا فيه كدليل مستقل. [٢٦]

أدلَّة النافين لحجّية الاستحسان

قد يكتفي النافون لحجّية الاستحسان بانعدام الدليل عليه، وفي مجال الأدلة النصيّة فإنَّه لم يرد ذكر لهذا العنوان في الروايات والآثار، سواء التي وردت عن طرق الشيعة أم عن طرق السنّة، ولم يكن للاستحسان بعنوانه الخاص نصيب في الروايات، مثلما كان للقياس كأحد الأدلَّة التي أثارت الجدل بين الشيعة والسنّة من جانب، والسنّة فيما بينهم من جانب آخر.
سبب عدم ذكر الاستحسان في الروايات الواردة عن الرسول(ص) واضح، فإنّه لم تكن هناك حاجة عهد الرسول(ص) لاستنباط الأحكام، وكان وجود الرسول يغني عن التفكير بآلية للاستنباط، وجلّ الكلام في ورود أو عدم ورود هذا العنوان في مثل روايات أهل البيت عليهمالسلام أو روايات الصحابة. لم يرد شيء عن هذا العنوان في روايات الصحابة، وكذا روايات أهل البيت، هذا مع أنَّ القائلين به بدأوا ممارسته في القرن الثاني من الهجرة، ولايمكن القول هنا بأنّ الاستحسان لم يكن مطروحا في عهد الأئمة عليهمالسلام، فإنَّ بعض المعاصرين لهم مثل الشافعي تعرَّض له، وهو يكشف عن وجود قائل به آنذاك.
وقد يرجع عدم ذكره في روايات أهل البيت إلى اعتباره نوع قياس[٢٧]، فيندرج ضمن روايات القياس، أو أنَّه نوع اجتهاد بالرأي[٢٨]، أو أنَّهما متَّحدان في المعنى، ولا فرق في المراد منهما وإن اختلفت الألفاظ[٢٩]، وبذلك يكون مشمولاً لروايات من قبيل الروايات التالية: قال: أبو جعفر عليهالسلام: «من أفتى الناس برأيه فقد دان اللّه بما لايعلم، ومن دان اللّه بما لايعلم فقد ضادّ اللّه حيث أحلَّ وحرَّم فيما لايعلم».[٣٠]
وقال أبو عبداللّه عليهالسلام: «فإنَّ عليا عليهالسلام أبى أن يدخل في دين اللّه الرأي، وأن يقول في شيء من دين اللّه بالرأي والمقاييس».[٣١] عن أبي بصير قال: قلت لأبي جعفر عليهالسلام: ترد علينا أشياء لا نجدها في الكتاب والسنّة فنقول فيها برأينا، فقال: «أما أنّك إن أصبت لم توجر، وإن أخطأت كذبت على اللّه».[٣٢]
وعلى هذا، يكون الاستحسان ممَّا وردت فيه الروايات الكثيرة ناهية عنه ومحذّرة العامل به تحذيرا شديدا، لا بعنوان الاستحسان بل بعنوان القياس أو الاجتهاد بالرأي. هذا إذا قلنا بكونه من قبيل القياس أو الاجتهاد بالرأي، أمَّا إذا أخرجناه عن هذا النطاق لندخله بعناوين أخرى، كالدليل العقلي، أو من قبيل الدليل المخصِّص والمقيِّد المستوحى من نص أو إجماع، فلا يكون ممَّا وردت فيه الروايات المزبورة.

أدلَّة الشافعي على نفي حجّية الاستحسان

ساق الشافعي[٣٣] عدَّة أدلَّة لنفي حجّية الاستحسان، يمكن تحديدها في الأمور التالية:
الأوَّل: الاستحسان ليس نصَّا ولا قياسا، والشارع لم يترك شيئا دون بيانه بنصٍّ أو قياس وفقا للآية الكريمة: «أَيَحْسَبُ الاْءِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى»[٣٤]، وهو في النتيجة مناقض لها.
الثاني: الكثير من الآيات تأمر بطاعة اللّه ورسوله، وتنهى عن اتّباع الهوى والردّ إلى كتاب اللّه ورسوله عند التنازع، من قبيل قوله تعالى: «فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ»[٣٥] والرجوع إلى الاستحسان لايعدُّ ردَّا إلى كتاب اللّه ولا رسوله.
الثالث: لم نأثر عن النبي إفتاءه باستحسانه، وفي الرجل الذي قال لامرأته: (أنت عليَّ كظهر أمّي) انتظر حتَّى تنزل آية الظهار، وكذلك في الرجل الذي وجد آخر مع امرأته ويتَّهمها بالزنا، فقد انتظر حتَّى نزلت آية اللعان. ولو جاز الاستحسان لأحد فالرسول صلىاللهعليهوآله أولى به من غيره.
الرابع: استنكر النبيّ بعض الصحابة على استحساناتهم، من قبيل استنكاره على أسامة لقتله من قال: (أسلمت تحت حرّ السيف)، واستنكاره لبعض الصحابة على إحراقهم مشركا لاذ بشجرة.
الخامس: لا توجد ضابطة تحدّد الاستحسان وتفرض له نطاقا خاصَّا، ممَّا يجعل الأحكام عرضة للأهواء والشهوات، وقد تختلف الأذواق والاستحسانات لدى المجتهدين والمفتين، فتختلف الأحكام في الموضوع الواحد.
السادس: لو كان الاستحسان اعتمادا على العقل جائزا، لجاز صدوره من أيٍّ من العقلاء، وإن كانوا غير عالمين بالكتاب والسنّة؛ وذلك لتوافره لديهم، بل قد يفوق عقل بعض عقل العلماء بالكتاب والسنّة، وهذا ما لايقول بجوازه أحد؛ لأنَّ الاجتهاد لايتأتَّى إلاَّ لمن استجمع آلياته. [٣٦] وأسلوب الدفع هذا أقرب بأسلوب الخطابة منه إلى الأسلوب العلمي، والأنسب في الدفع هو نفي الحجّية بعدم قيام الدليل، بل يكفي الشك فيها للقطع بعدمها[٣٧]، هذا إذا لم نرجعه إلى دليل مقيِّد أو مخصِّص من الأدلَّة المتَّفق عليها نسبيا من الكتاب والسنّة والإجماع، وإلاَّ فالدفع لايرد.

الهوامش

  1. الزمر : 18.
  2. الزمر : 55.
  3. انظر : الإحكام الآمدي 3 ـ 4 : 393، روضة الناظر : 85 .
  4. نظرية الاستحسان : 117.
  5. الأصول العامة للفقه المقارن : 359.
  6. البحر المحيط 6 : 94.
  7. شرح المعالم ابن التلمساني 2 : 472.
  8. أصول السرخسي 2 : 200.
  9. انظر : المستصفى 1 : 255، روضة الناظر : 86 .
  10. الأصول العامة للفقه المقارن : 360.
  11. انظر : روضة الناظر: 85 ـ 86 ، الأصول العامة للفقه المقارن : 360.
  12. البقرة : 185.
  13. المبسوط السرخسي 10 : 145.
  14. انظر : مسند الطيالسي : 33، مسند أحمد 1 : 626 ح3589، المعجم الكبير 9 : 113، بحار الأنوار 22 : 450 ـ 451.
  15. انظر : الإحكام ابن حزم 5 ـ 8 : 194، البحر المحيط 6 : 94.
  16. الأصول العامة للفقه المقارن  : 360.
  17. الأصول العامة للفقه المقارن : 361.
  18. المستصفى 1 : 255.
  19. انظر : الإحكام الآمدي 3 ـ 4 : 394، شرح المعالم (ابن التلمساني) 2 : 472.
  20. المستصفى 1 : 255.
  21. انظر : المستصفى 1 : 255، روضة الناظر : 86 .
  22. انظر : الأصول العامة للفقه المقارن : 361.
  23. الإحكام الآمدي 3 ـ 4 : 391.
  24. انظر: البحر المحيط 6 : 94، الأصول العامة للفقه المقارن : 361.
  25. انظر : المستصفى 1 : 255، روضة الناظر : 85 .
  26. انظر : نظرية الاستحسان : 119.
  27. كما ورد ذلك في التعاريف الواردة في كشف الأسرار البخاري 4 : 8 ، أصول الفقه (ابن مفلح) 4 : 1463، المسوّدة : 402.
  28. كما عرَّفه بعض مثل الآمدي : بأنَّه ترك وجه من وجوه الاجتهاد. انظر : الإحكام 3 ـ 4 : 392.
  29. كما ساوى بينهما ابن حزم، انظر : الإحكام 5 ـ 8 : 192.
  30. وسائل الشيعة 27 : 41 كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب 6 عدم جواز القضاء والحكم بالرأي والاجتهاد ح12.
  31. وسائل الشيعة 27 : 51 كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب 6 عدم جواز القضاء والحكم بالرأي والاجتهاد ح33.
  32. وسائل الشيعة 27 : 51 كتاب القضاء أبواب صفات القاضي، باب 6 عدم جواز القضاء والحكم بالرأي والاجتهاد ح35.
  33. انظر : الأمّ 7 : 313 ـ 320، الرسالة : 503 ـ 508.
  34. القيامة : 36.
  35. النساء : 59.
  36. انظر : أصول الفقه أبو زهرة : 253 ـ 254، أصول الفقه (البرديسي) : 303 ـ 305، نظرية الاستحسان : 88 ـ 92.
  37. الأصول العامة للفقه المقارن : 363.