القطع

من ویکي‌وحدت

القطع: وهو العلم واليقين، والمراد في هذا المقال أن نبحث عن حجيته ونقل الآراء حول هذا الموضوع.

حجية القطع

للحجّيّة معانٍ مختلفة كالموارد التالية:
الأوّل: الحجية المنطقية، وتعني مدى صدقية وموضوعية العلم للكشف عن الواقع.
الثاني: الحجّيّة التكوينية، وهي دافعية القطع بنحو تكويني للعمل وفقه.
الثالث: الحجّيّة بمعنى التنجيز والتعذير، وأنّ العبد في علاقته مع مولاه يمكنه العمل وفق القطع ويكون منجزا له ومعذرا، فيستحقّ الثواب والعقاب وفق هذه الحجّيّة[١].
عند استخدام تعبير (حجّيّة القطع) أو (حجّيّة العلم) فقد يريدون كلاًّ من المعاني المتقدّمة للحجّيّة، لكنّ البحث العلمي في اُصول الفقه منصبّ على المعنى الثاني والثالث فقط؛ لكونه يدخل في صلب البحوث الاُصولية ومن ضمن مواضيع هذا العلم.
كما أنّه باعتبار التلازم بين المعنى الثاني والثالث كثيرا ما يدغمان ويعدّان معنى واحدا، ولا يلتفت إلى التفريق بينهما، فنجد أحيانا تقسيم معاني حجّيّة القطع إلى القسمين التاليين: كاشفيته عن الواقع (وهو المعنى المنطقي)، ولزوم متابعته (وهو المعنى الذي وقع موضع بحث الاُصوليين). والأخير هو المهمّ من وجهة نظر اُصول الفقه، بل قد لا يلاحظ المعنى الآخر، وتفسّر الحجّيّة به حصرا ويترك المعنى الآخر. وقد عبّر عن ذلك السيّد الخوئي بالخلط بين الأمرين، ونسبه إلى الشيخ الأنصاري[٢]. ولأجل ذلك يُعدّ الظنّ في بعض الموارد حجّة، ويراد منه لزوم متابعته بجعل من الشارع وإن لم يكن كاشفا وطريقا عن الواقع حقيقة؛ لكونه منجزا ومعذرا [٣].

رأي الأخبارية في حجّيّة القطع

يبدو وجود إجماع على حجّيّة القطع إلاّ ما نسب إلى الأخبارية من عدم حجّيّة القطع الناشئ من مقدّمات عقلية[٤].
سبب هذه النسبة هو تعابير وردت عن بعض الأخباريين تفيد حصر استخدام العقل في الموارد الضرورية وعدم حجّيّته إلاّ في تلك الموارد، لكن يبدو أنّ هذه النسبة غير صحيحة ورفضها من تناول هذه النسبة واعتبر الصحيح هو نفي هؤلاء العلماء لـ الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، لكن كلمات الأخباريين في هذا المجال مضطربة وتحتمل أكثر من معنى ممّا أثّر في إيجاد الانطباع المذكور في أذهان غيرهم[٥].
ومن المحتمل كون روايات مثل: «شر عليكم أن تقولوا بشيء ما لم تسمعوه منّا»[٦]. أو «من دان اللّه‏ بغير سماع عن صادق ألزمه اللّه‏ التيه يوم القيامة»[٧]. كانت هي السبب في إيجاد التصوّر المذكور عن الأخبارية بلحاظ قولهم بحجّيّة الكثير أو أكثر الروايات المنسوبة لأهل البيت دون التدقيق بها بنفس النحو والطريقة التي يعملها الاُصوليون.

رأي المذاهب الإسلامية في حجّيّة القطع

باستثناء ما نسب إلى الأخباريين فإنّ مجمل المذاهب الإسلامية لم يختلفوا في حجية القطع، ويمكن الاستدلال على هذا الموضوع بأنّ أصل البحث لم يطرح من قبل قدماء ومتقدّمي الاُصوليين، وطرحه متأخّرو الشيعة فقط، ما يعني تسالم جميعهم على الحجّيّة ولو كان هناك من يرفض هذا الرأي لنقل في كتبهم ولكان منشأ لتدارس هذا الموضوع كما كانت الشبهة المنسوبة للأخبارين منشأ لتدارس الموضوع من قبل متأخّري الشيعة. ولم نأثر شيئا واضحا لهذا البحث في كلمات اُصوليي باقي المذاهب. وهذا دليل على عدم وجود خلاف فيه.

نکات مهمة في حجّيّة القطع

يمكن القول بوجود إجماع على حجّيّة القطع، لكن الاختلاف في فذلكته، وفي هذا المجال توجد عدّة توجّهات:
النکتة الاولی: كون حجّيّته ذاتية، وهذه النظرية تعني أنّ القطع طريق وكاشف عن الواقع ولزوم ووجوب متابعته والعمل وفقه، دون الحاجة إلى دليل؛ لكون هذا من لوازمه الذاتية، وبمثابة الزوجية للاثنين والأربعة؛ وباعتبار كون الحجّيّة ذاتية فلا ينبغي البحث عن دليل عليها [٨].
ويُضاف إلى هذا بأنّه باعتبار أنّ الحجّيّة من اللوازم الذاتية، فالقطع المنظور هو مجمل القطع وبجميع أصنافه سواء كان موافقا للواقع أو خياليا وغير موافق للواقع، أي الجهل المركّب، وسواء حصل لدى المجتهد أم لدى المقلّد[٩].
وقد يفسّر هذا الوجوب واللزوم بالشرعي، أي أنّ هذه الملازمة ممّا أمر الشرع بقبولها [١٠]. لكن يقال: بأنّ هذه المسألة لا علاقة لها بالشرع والقضية تخضع لأحكام العقل، بل يذهب البعض إلى أنّ طرح كون الحجية بجعل شرعي أو تكويني كلام لا معنى له؛ لأنّ الحجّيّة ذاتية، والذاتي لا يعلل، وهو مساوق لجعل القطع للقطع، وهو لا معنى له[١١].
ويُرجع البعض حجّيّة القطع ولزوم العمل به إلى الوجدان ويراه ممّا يشهد الوجدان عليه ولا حاجة للاستدلال عليه غير الوجدان. فهو أمر لم يكن بجعل جاعل بل حاصل بدون جعل أصلاً [١٢].
ويعبر بعض آخر عن هذا المضمون بالضرورة بدلاً عن الوجدان، ويرى أنّ كاشفية القطع وانكشاف الواقع به من الاُمور الضرورية، ويعدّ من الآثار واللوازم التي لا تنالها يد الجعل تكوينا لا نفيا ولا إثباتا، كما يضيف إليها تبريرات فلسفية.
وهناك من ينكر إثبات الطريقية له، ويرى أنّ الحجّيّة ليست من اللوازم، بل القطع هو نفسه الانكشاف والرؤية لا أنّه مرآة، وهو بنفسه طريق بحسب ماهيته وذاته، وثبوت الشيء لنفسه ضروري.
كما يرفض رأي الشيخ الأنصاري لكونه خلط بين مقام طريقية القطع ومقام حجّيّته[١٣]. وهذا هو ظاهر كلمات الذين عبّروا عن المسألة بكون القطع علّة تامّة للتنجّز ولن تناله الجعل، مثل المحقّق الخراساني[١٤].
النکتة الثانية: الدليل هو بناء العقلاء، أي أنّ الحجّيّة تعدّ من القضايا المشهورة التي يتبناها العقلاء حفظا للنظام وإبقاء للنوع، وتعود إلى حسن العدل و قبح الظلم، ولم يردع عنها الشارع فينبغي اتّباعه[١٥].
وقد ردّ هذا التوجّه بأنّه خارج عمّا نحن فيه؛ لأنّ الهدف من القضايا التي تواضعوا عليها هو حفظ النظام وإبقاء النوع، وحجّيّة القطع ليست من قبيل قبح الظلم حفظا لنظام البشرية، وذلك لسببين:
الأوّل : حجّيّة القطع ثابتة قبل وجود عقلاء في العالم .
الثاني: حكم العقلاء يرجع إلى قضية حفظ النظام وليس اتّباعا للأوامر الشرعية الدخيلة في حفظ النظام، فالإتيان بالصلاة لا دخل له في حفظ النظام وإبقاء نوع البشر ولا يؤدّي تركه إلى اختلال النظام[١٦]. ولأجل هذا لا شأن للعقلاء في هذا المجال ولا يمكنهم الحکم والبتّ بهذا الموضوع.
النکتة الثالثة: الدليل هو حكم العقل، فالعقل هو الذي قضى بأن يتّبع القطع. وهو صريح كلمات وردت عن المحقق الخراساني، حيث قال: «لا شبهة في وجوب العمل على وفق القطع عقلاً»[١٧].
ومن المحتمل أنّ الاضطراب في كلمات المحقّق الخراساني، حيث تبدو من بعض كلماته قوله بأنّ الحجّيّة من اللوازم الذاتية، ومن بعض اُخرى أنّها بحكم العقل، ناشئ عن رؤيته في التلازم بين القول بكون القطع علّة تامّة للتنجز وبين كون دليل التنجز والحجّيّة هو العقل، أو أنّه لم يفرّق بين التوجّهين.
وقد عبّر البعض عن هذا الدليل بقوله: إنّ العمل بالقطع عدل ومخالفته ظلم، وهذا يعني أنّها من صغريات ومصاديق حسن العدل و قبح الظلم[١٨]، كما استدلّ على هذا التوجّه بأدلة اُخرى أيضا [١٩].
وردّ هذا التوجّه بأنّ شأن العقل هو الإدراك فحسب لا الإلزام والبعث، فالأمر والنهي ليسا من شأن العقل ولا من وظائفه، بل هي من وظائف المولى. لكن يمكن قبول هذا التوجّه لا بالمعنى المذكور، بل بمعنى إدراك العقل حسن اتّباع القطع وقبح مخالفته[٢٠].
وهناك أدلّة اُخرى وردت ضمن هذا التوجّه وردّت كذلك[٢١].

قطع القطاع

من المسائل التي ناقشها الاُصوليون هي اعتبار أو عدم اعتبار قطع القطاع. والمراد من القطّاع ـ حسب استخدامات الاُصوليين ـ هو الشخص الذي يقطع بالاُمور ويحصل لديه علم ويقين دون مبرّرات موضوعية لعلمه وقطعه، بل حالة اليقين تحصل لديه بشكل خارج عن عادة باقي البشر في اعتمادهم مبررات موضوعية لليقين غالبا. ولا يراد منه من يحصل له القطع كثيرا لكونه عالما بملازمات الاُمور التكوينية كالطبيب الذي يعلم بالملازمات بين علامات الجسم وأمراضه[٢٢].
عبارات الاُصوليين هنا عامّة ومبهمة بعض الشيء، وقد يكون فيها خلط بين صنفي القطع (الطريقي والموضوعي)، لكن يمكن مناقشة هكذا قطع تارة فيما إذا كان طريقيا واُخرى فيما إذا كان موضوعيا. فإذا كان طريقيا فيبدو وجود شبه اتّفاق على حجّيّته، وخاصّة بالنسبة إلى اُولئك الذين قالوا بأنّ الحجية من اللوازم الذاتية للقطع، ولا يناله الجعل والتغيير، والأمر ليس بيد أحد، وليست الحجّيّة من شؤون المولى لكي يتدخّل فيها ويسلبها عن القطع. فإنّ تقييد حجّيّة القطع الطريقي بغير قطع القطّاع ممّا لا يمكن؛ لكون القطع عين الطريقية والانكشاف، ولا يمكن التفكيك بينهما، فعند حصوله يدرك العقل صحّة المؤاخذة والعذر عند المخالفة والموافقة. نعم، يمكن النهي عن عوامل قطع القطّاع من أمور يكون التفكير بها سببا لقطع القطّاع[٢٣] .
ولذلك لم نعثر على نقاش معتدّ به في هذا المضمار إلاّ في موردين أحدهما منقول عن كاشف الغطاء، والآخر عن الأخباريين، حيث منعوا حجّيّة القطع الناشئ عن أسباب غير الكتاب و السنة، وقالوا بعدم حجّيّة القطع الناشئ عن العقل[٢٤]. برغم وجود تشكيكات في كشف قطع القطّاع عن الواقع وفي طريقيته[٢٥].
وجلّ النقاش وقع فيما إذا كان القطع موضوعيا في مثل الشهادة و الفتوى، حيث موضوعهما العلم بواقع أمر مّا. ومنشأ النقاش هنا هو أنّ من شأن المولى أن يجعل الحجّيّة له وأن يسلبها عنه؛ لأن شأن هكذا حجّيّة بيد اللّه‏؛باعتبارها موضوعا لحكم شرعي، و الحکم الشرعي اعتبارات مولوية وممّا تناله يد الجعل المولوي، فللمولى أن يجعل موضوع الحکم نوعا خاصّا من القطع ويستثني القطع الذي لا يعتمد مبررات موضوعية[٢٦].
وفي هذا المجال رأيان:
الرأي الأوّل: عدم اعتباره، واستدلّ عليه باُمور مثل:
1 ـ كونه من الاُمور الواضحة التي لا يشكّ بها، فهو ممّا تنصرف عنه أدلّة اعتبار العلم موضوعا.
2 ـ كونه ممّا يبدو من كلمات المتقدّمين الذين لم يتعرّضوا لهذه القضية، لكن اشترطوا الضبط في الراوي لتقليل احتمال الخطأ في روايته، ومن باب أولى يخرج عن الحجّيّة قطع القطّاع لكثرة خطئه[٢٧].
3 ـ تشبيها له بكثير الشكّ، فهناك أدلّة أثبتت بأنّه لا يعتدّ بكثير الشكّ، فيقاس عليها كثير أو سريع القطع والظنّ، والقطع ينصرف إلى ما يحصل لأسباب متعارفة عادية[٢٨].
ولأجل هذا قال البعض: بإمكان تقييد حجّيّة القطع بغير قطع القطّاع[٢٩]. وقال آخر: بأنّ الحقّ عدم اعتبار قطع القطاع في الأحكام الفقهية مثل: الشهادة؛ لعدم شمول أدلّة العلم لهذا الصنف من القطع[٣٠].
الرأي الثاني: حجّيّة قطع القطّاع. واستدلّ على هذا الرأي بأنّ القطع إذا حصل أثّر أثره وهو لا يختلف من حيث المنشأ والسبب، فإنّ العقل لا يفرّق بين أصناف اليقين من هذه الحيثية، والذي يلاحظه هو القطع، فإذا حصل رتّب عليه آثاره ومنها تنجيز التكليف بمجرّد حصول العلم به[٣١].
وهناك من يرى أنّه باعتبار كون الحجّيّة ليست ذاتية للقطع فبإمكان المولى أن ينفي الحجّيّة عن قطع القطّاع، لكن باعتبار أنّ حجّيّة القطع ناشئة عن السيرة العقلائية، وهي لا تنفي حجّيّته ولم يرد ردع شرعي عن قطع القطاع فالنتيجة هي حجّيّة قطع القطّاع مطلقا [٣٢].

المصادر

  1. . بحوث في علم الاُصول الشاهرودي 4: 27.
  2. . مصباح الاُصول 2: 15.
  3. . منتهى الاُصول 2: 19.
  4. . الهداية في الاُصول 3: 68 ـ 69، منتقى الاُصول 4: 109.
  5. . كفاية الاُصول مع حواشي المشكيني 3: 113 ـ 114، أجود التقريرات 3: 72، فرائد الاُصول 1: 51.
  6. . الكافي 2: 402.
  7. . وسائل الشيعة 27: 75.
  8. . اُصول الفقه المظفر 3: 22 ـ 28.
  9. . دراسات في علم الاُصول 3: 15 ـ 16.
  10. . لمحات الاُصول: 421.
  11. . اُصول الفقه المظفر 3: 25 ـ 26.
  12. . بداية الوصول في شرح كفاية الاُصول 5: 14، المحكم في اُصول الفقه 3: 17 ـ 19.
  13. . دراسات في علم الاُصول 3: 13.
  14. . كفاية الاُصول: 272.
  15. . مصباح الاُصول 2: 16.
  16. . دراسات في علم الاُصول 3: 14 ـ 15.
  17. . كفاية الاُصول: 258.
  18. . بحوث في علم الاُصول الشاهرودي 4: 28.
  19. . اُنظر: بحوث في علم الاُصول الشاهرودي 4: 31 ـ 36.
  20. . دراسات في علم الاُصول 3: 14 ـ 15، واُنظر: المحكم في اُصول الفقه 3: 19.
  21. . دراسات في علم الاُصول 3: 14 ـ 15.
  22. . تقريرات المجدد الشيرازي 3: 307، فرائد الاُصول 1: 65، تعليقة على معالم الاُصول 5: 44، أوثق الوسائل: 36، مصباح الاُصول 2: 53.
  23. . الهداية في الاُصول 3: 68.
  24. . المحكم في اُصول الفقه 3: 94 ـ 95.
  25. . تعليقة على معالم الاُصول القزويني 5: 45 ـ 46.
  26. . مصباح الاُصول 2: 52 ـ 54.
  27. . تقريرات المجدد الشيرازي 3: 308 ـ 309.
  28. . فوائد الاُصول 3: 64 ـ 65.
  29. . الهداية في الاُصول 3: 68.
  30. . فرائد الاُصول 1: 65 ـ 66.
  31. . كفاية الاُصول: 269 ـ 270.
  32. . تسديد الاُصول 2: 28.