جواز التقليد: اصطلاح فقهيٌ أو أصوليٌ بمعنی متابعة الجاهل للعالم بلا دليل، ولکن اختلفوا في أنّ التقليد هل هو من مقولة الفعل أو من مقولة الالتزام؟ فمن عرّفه بأنّه «العمل بقول الغير من غير حجّة ملزمة» لاحظ جانب العمل، و من عرّفه بأنّه «الأخذ بقول الغير من غير دليل» نظر إلی جانب الالتزام.

تعريف التقليد لغةً

التقليد: جعل شيء في العنق محيطا به، ومنه الحديث النبوي: «قلّدوا الخيل ولاتقلّدوها الأوتار»[١]، أي لاتجعلوا الأقواس التي هي حديد في أعناقها خشية اختناقها، وما يحيط العنق يسمّى قلادة[٢].

تعريف التقليد اصطلاحاً

ذكر للتقليد عدّة تعريفات:
منها: قبول قول بلا حجّة[٣]. وما هو قريب من ذلك[٤].
منها: قبول قول الغير المستند إلى الاجتهاد[٥].
منها: قبول قول الغير في الأحكام الشرعية من غير دليل على خصوصية ذلك الحكم[٦].
منها: الأخذ بقول الغير من غير دليل[٧].
منها: العمل بقول الغير من غير حجّة ملزمة[٨]. وما هو قريب من ذلك[٩].
منها: العمل اعتمادا على رأي الغير[١٠].
منها: الاستناد إلى قول الغير في مقام العمل[١١].
منها: الالتزام بالعمل بقول مجتهد معيّن وان لم يعمل بعد[١٢].
وهذه التعريفات يمكن أن تكون على ثلاث طوائف؛ طائفة اُخذ فيها لفظ «القبول» أو «الأخذ»، وطائفة أخذ فيها لفظ «العمل»، وطائفة اُخذ فيها لفظ «الالتزام»، فهل هذا الاختلاف في هذه التعريفات هو مجرّد اختلاف في الألفاظ، وأنّ المقصود والمراد من الجميع واحد، أو الاختلاف في ذلك اختلاف في معنى التقليد؟
فقد يدّعى أنّ الثمرة بين التعبير بالعمل وبين التعبير بغيره تظهر في من قلّد مجتهدا ولم يعمل بقوله بعد، فإنّه بناءً على أخذ مجرّد الالتزام في تعريفه يكون مقلّدا له، فيجوز البقاء على تقليده، بخلافه ما لو أخذنا في مفهومه قيد العمل، فإنّه لايكون مقلّدا لذلك المجتهد لعدم عمله بما التزم به فلايجوز له البقاء على تقليده ـ بناءً على جواز البقاء ـ[١٣] . ويذهب السيّد الحكيم إلى أنّ هذا الاختلاف مجرّد اختلاف في العبارة فـ «أنّ عدم تعرضهم للخلاف في ذلك مع تعرّضهم لكثير من الجهات غير المهمّة يدلّ على كون مراد الجميع واحدا وأنّ اختلافهم بمحض التعبير[١٤].
ورجّح بعد ذلك كون مراد الجميع واحدا، وهو أيضا ماذكره السيد الخوئي بأنّ المراد به العمل لا مجرّد الالتزام «فمعنى أنّ العامي قلّد المجتهد أنّه جعل أعماله على رقبة المجتهد وعاتقه وأتى بها استنادا إلى فتواه لا أنّ معناه الأخذ أو الالتزام أو غير ذلك من الوجوه لعدم توافق شيء من ذلك مع معنى التقليد لغة ـ مثلاً ـ إذا فسرناه بالالتزام رجع معنى تقليد المجتهد إلى أنّ العامّي جعل فتوى المجتهد وأقواله قلادة لنفسه لا أنّه جعل أعماله قلادة على رقبة المجتهد»[١٥]، وأضاف بعد ذلك أنّ الاختلاف في مفهوم التقليد لايترتّب عليه أي ثمرة فقهية، وأنّ ما ذُكر له من ثمرة فإنّ مبنى الخلاف فيه يعود إلى أمر آخر لا إلى الاختلاف في مفهوم التقليد[١٦].
ثُمّ إنّ هناك شيئا آخر يلاحظ في بعض التعاريف وهو إضافة لفظ «من غير حجّة» فإنّ مرادهم به وقوعه صفة للتقليد، فالتقليد وقع من غير حجّة توجب جوازه، ولذا ذكروا فيه أنّه لايشمل رجوع العامّي إلى المفتي، فإنّه رجوع قامت الحجّة على جوازه[١٧]. لكن الاختلاف في ذلك لفظي فحسب، فإنّهم أجازوا رجوع الجاهل إلى العالم وإن لم يسمّوا ذلك تقليدا[١٨].
ثُمّ إنّ العلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي هو أنّ العامّي «كأنّه يجعل ما يعتقده من قول الغير من حقّ أو باطل في عنق من قلّده»[١٩].

حکم التقليد

وقع البحث في جواز التقليد وعدمه، والكلام في ذلك في مقامين:

المقام الأوّل: التقليد في أصول الدين وضرورياته

ذهبت الشيعة الإمامية[٢٠] وجمهور محقّقي أهل السنّة[٢١] إلى عدم جواز التقليد في أصول الدين «كمعرفة اللّه‏ تعالى ووحدانيته وصحّة الرسالة ونحوها من القطعيات الظاهرة الأدلّة، لظهور أدلّتها في نفس كلّ عاقل وإن منع العامّي... قصور عبارته من التعبير عن تلك الأدلّة الظاهرة، فإنّ العامّي إذا رأى العالم باختلاف أجناسه وأنواعه وحركاته وما فيه من الحكمة والاتقان علم بالضرورة أنّ له صانعا، وإن قصرت عبارته عن تقرير دليل الدور والتسلسل الدالّ على وجود الصانع»[٢٢].
وكذلك ذهبوا إلى عدم جواز التقليد «فيما علم كونه من الدين ضرورة كالأركان الخمسة، وهي: الشهادتان والصلاة والزكاة والصيام والحجّ، لاشتراك الكلّ ـ يعني العامّي وغيره ـ في العلم بذلك، إذ التقليد يستدعي جهل المقلِّد بما قلَّد فيه، وذلك مستحيل فيما عُلم بالضرورة»[٢٣].
وعلل السيّد الحكيم القول بعدم جواز التقليد فيه، بقوله: «إنّ وجوب العمل شرعا برأي الغير حكم ظاهري كوجوب العمل بسائر الحجج، ومن المعلوم أنّ الحكم الظاهري يختصّ جعله بحال الشكّ، فيمتنع جعل حجّية رأي الغير مع العلم بالواقع، كما في الضروريات واليقينيات»[٢٤].
وقد استدلّوا لذلك أيضا بجملة من الأدلّة كالآيات الواردة في المنع عن التقليد وذمه، والإجماع القائم على عدم جواز التقليد فيها، وحكم العقل بعدم جواز اعتماد الظنّ في أصول الدين لاحتمال خطأ الظنّ، وغير ذلك من الأدلّة[٢٥].
وفي المقابل «ذهب كثير من الفقهاء وبعض المتكلّمين كعبيد اللّه‏ بن الحسين العنبري والحشوية والتعليمية جوازه»[٢٦]، واستدلّوا له بجملة من الأدلّة أيضا[٢٧]. وللشيخ الأنصاري تفصيل في المسألة ذكره في رسالة «التقليد»[٢٨]. والمسألة معقودة في علم الكلام.

المقام الثاني: التقليد في فروع الدين

اختلفوا في جواز التقليد فيها إلى عدّة أقوال:

القول الأوّل: جواز التقليد ووجوبه

وهو قول الجمهور، وأُستدل له بعدّة أدلّة أهمّها:

الدليل الأوّل: الارتكاز والبناء العقلائي

هذا الارتکاز قائم على جواز رجوع الجاهل إلى أهل الخبرة في شتّى المجالات، فيجوز رجوع العامّي إلى العالم؛ لكونه أعلم منه بالحلال والحرام، وهذا الارتكاز كان قائما بمرأى ومسمع من المعصوم عليه‏السلامولم يردع عنه، إذ لوردع عنه لوصل إلينا، فتكون مثل هذا البناء وهذه السيرة ممضاة شرعا[٢٩].
وهذا هو عمدة الأدلّة على جواز التقليد.

الدليل الثاني: آية السؤال

قوله تعالى: «فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ»[٣٠]، فدلّت الآية على وجوب السؤال عند الجهل، وهو في كلّ ما لايُعلم من المسائل والفروع الشرعية، فالآية تدلّ على جواز رجوع الجاهل إلى العالم، وهو معنى التقليد، فإنّ السؤال إنّما هو للعمل به لا لمجرّد السؤال[٣١].

المصادر

  1. . مستدرك الوسائل 8: 260، المصنف لابن أبي شيبة 7: 706.
  2. . لسان العرب 3: 3298 ـ 3299 مادة «قلد».
  3. . المستصفى 2: 238.
  4. . أنظر: شرح مختصر الروضة 3: 651، الوافية: 299.
  5. . جامع المقاصد 2: 69.
  6. . حكاه في مفاتيح الاُصول: 588 عن فخر المحقّقين.
  7. . المقاصد العلية: 46.
  8. . الإحكام الآمدي 3ـ4: 445، نهاية الوصول (العلاّمة الحلّي) 5: 241.
  9. . أنظر: معالم الدين: 242، عناية الأصول 6: 213 ـ 214، شرح مختصر المنتهى: 479، مسلّم الثبوت 2: 400، إرشاد الفحول 2: 327.
  10. . مستمسك العروة الوثقى 1: 12.
  11. . كتاب الاجتهاد والتقليد الخوئي 1: 15.
  12. . العروة الوثقى 1: 14.
  13. . أنظر: الأصول العامّة للفقه المقارن: 618.
  14. . مستمسك العروة الوثقى 1: 11.
  15. . كتاب الاجتهاد والتقليد الخوئي 1: 78.
  16. . المصدر السابق: 81 ـ 82 .
  17. . أنظر: المستصفى 2: 238، نهاية الوصول العلاّمة الحلّي 5: 241، إرشاد الفحول 2: 327.
  18. . الأصول العامة للفقه المقارن: 624.
  19. . المقاصد العلّية: 46.
  20. . أنظر: معالم الدين: 243، الفوائد الحائرية: 455، مستمسك العروة الوثقى 1: 103، كتاب الاجتهاد والتقليد الخوئي 1: 411.
  21. . أنظر: شرح اللمع 2: 1007، المستصفى 2: 238، الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 446، المحصول (الرازي) 2: 539.
  22. . شرح مختصر الروضة 3: 656 ـ 657.
  23. . المصدر السابق: 656.
  24. . مستمسك العروة الوثقى: 1: 10.
  25. . أنظر: الفوائد الحائرية: 455 ـ 456، الإبهاج في شرح المنهاج 3: 274، أصول الفقه الخضري: 380.
  26. . الإبهاج في شرح المنهاج 3: 273.
  27. . أنظر: الإحكام الآمدي 3ـ4: 446ـ447، الإبهاج في شرح المنهاج 3: 273.
  28. . التقليد: 73ـ74.
  29. . كتاب الاجتهاد والتقليد الخوئي 1: 83.
  30. . النحل: 73.
  31. . الإحكام الآمدي 3ـ4: 451، مستمسك العروة الوثقى 1: 40 ـ 41، كتاب الاجتهاد والتقليد الخوئي 1: 88 ـ 89.