نظام الملك
أبو علي قوام الدين بن علي بن إسحاق الطوسي المعروف بنظام الملك: وزير، فاضل، ذو فكر وحدوي. وصفه الذهبي بقوله: «عاقل، سائس، خبير، سعيد، متديّن، محتشم، عامر المجلس بالقرّاء والفقهاء».
حیاته
وكان أبوه من دهاقين بيهق، فنشأ وقرأ نحواً، وتعانى الكتابة والديوان، وخدم بغزنة، وتنقّلت به الأحوال إلى أن وزر للسلطان ألب آرسلان، ثمّ لابنه ملكشاه، فدبّر ممالِكَه على أتمّ ما ينبغي، وخفّف المظالم، ورفق بالرعايا، وبنى الوقوف، وهاجرت الكبار إلى جنابه، وازدادت رفعته، واستمرّ عشرين سنة.
نشاطاته
أنشأ المدرسة الكبرى ببغداد، وأُخرى بنيسابور، وأُخرى بطوس، ورغّب في العلم، وأدرّ على الطلبة الصلات، وأملى الحديث، وبَعُدَ صيته.
من روي عنهم
سمع من: القُشيري، وأبي مسلم بن مهربزد، وأبي حامد الأزهري.
من روي عنه
روى عنه: علي بن طراد الزينبي، ونصر بن نصر العُكبري، وجماعة.
في كلام الكبار
قال الذهبي أيضاً: «وكان فيه خير وتقوى، وميل إلى الصالحين، وخضوع لموعظتهم، يُعجبه من يبيّن له عيوب نفسه، فينكسر ويبكي».
مولده في سنة ثمانٍ وأربع مئة للهجرة، وقُتِلَ صائماً في رمضان، أتاه باطني في هيئة صُوفي يُناوله قصّة، فأخذها منه، فضربه بالسكّين في فؤاده، فتَلِف، وقتلوا قاتله، وذلك ليلة جمعةٍ سنة خمس وثمانين وأربع مئة بقرب نهاوند، وكان آخر قوله: «لا تقتلوا قاتلي، قد عَفوتُ، لا إله إلّااللَّه».
قال ابن خلِّكان: «قد دخل نظام الملك على المقتدي باللَّه، فأجلسه، وقال له: يا حسن، رضي اللَّه عنك، كرضى أمير المؤمنين عنك».
وللنظام سيرة طويلة في «تاريخ ابن النجار»، وكان شافعياً أشعرياً.
وقيل: إنّ قتله كان بتدبير السلطان، فلم يُمهَل بعده إلّانحو شهر.
وكان النظام قد ختم وله إحدى عشرة، واشتغل بمذهب الشافعي، وسار إلى غزنة، فصار كاتباً نجيباً، إليه المنتهى في الحساب، وبرع في الإنشاء، وكان ذكياً، لبيباً، يقظاً، كامل السؤدد.
قيل: إنّه ما جلس إلّاعلى وضوء، وما توضّأ إلّاتنفّل، ويصوم الاثنين والخميس، جدّد عمارة خوارزم، ومشهد طوس، وعمل مشفىً، نابه عليه خمسون ألف دينار، وبنى أيضاً مدارس بمرو وهراة وبلخ والبصرة وأصبهان، وكان حليماً رزيناً جواداً، صاحب فتوّة واحتمال ومعروف كثير إلى الغاية، ويُبالغ في الخضوع للصالحين. وقيل: كان يتصدّق كلّ صباح بمئة دينار.
قال ابن عقيل: «بهر العقول سيرة النظام جوداً وكرماً وعدلًا وإحياءً لمعالم الدين، كانت أيّامه دولة أهل العلم، ثمّ خُتِمَ له بالقتل وهو مارٌّ إلى الحجّ في رمضان، فمات مَلِكاً في الدنيا، مَلِكاً في الآخرة».
آرائه الوحدوية
يقول الدكتور يحيى الخشّاب في مقالةٍ له نشرتها مجلّة «رسالة الإسلام» القاهرية حول أفكار الوزير نظام الملك الوحدوية ما نصّه: «.... كان نظام الملك بعيد النظر، واسع الأُفق، شديد الإحساس بما يدور ببلاده ومن حول بلاده، رأى الأُمّة الإسلامية مقسّمة إلى خلافات ثلاث:
خلافة بغداد، وخلافة مصر، وخلافة الأندلس، ورأى العالم المسيحي يتآمر على هذه الأُمّة المسلمة، وتتربّص بها الدوائر، وكان ذلك عصر التمهيد للحروب الصليبية.
وكانت البلاد الإسلامية قد أُصيبت يومئذٍ من التفرّق والتعصّب بداء عضال قد تغلغل في صميمها، وأصبح العلماء فيها مولعين بالجدال والمناظرات، وأن يتحدّى بعضهم بعضاً
في المجالس والمدارس... كانوا يختلفون في الفقه والكلام خلافات حادّة، ويحتربون حرباً مضنية، ويجرّون وراءهم العامّة جرّاً، حتّى كثرت الفرق وتباينت، وكلّ فرقة تبغي الغلب والظفر بخصومها،
وتحرّض من تستطيع تحريضه من الأُمراء والوزراء على مخالفيها، وكان الوزراء والأُمراء من جانبهم يؤرِّثون هذه العداوات، ويشجّعون تلك الخصومات؛ انتفاعاً بما يجنون منها من شغل العامّة والتحكّم في الخاصّة.
وأدرك نظام الملك ما في ذلك من الخطر،
وفهم ما ينطوي عليه هذا التفرّق والاختلاف الحادّ من تصوير للإسلام في نظر خصومه والمتربّصين به بصورة تخالف حقيقته، وتعين على هدمه... إنّ دين اللَّه واحد لا خلاف على أصوله، وإنّ الفتن التي تفرّق بين المسلم وأخيه لا تتّصل بركن من أركان هذا الدين، ولا يبعثها في كلّ حال حرصٌ عليه،
إنّما هي النزوات والشهوات، نزوات الجهل وشهوات التعصّب، فحرص على أن يصلح هذه الأحوال المضطربة، وصمّم على أن ينقذ الأُمّة من ويلات الخلاف والشقاق، وعلى أن يبثّ في أهل العلم روحاً من التسامح والهدوء في البحث والتخلّص من شوائب التعصّب، وأن يرتفع بهم عن الحزازت واصطناع المكائد والفتن.
وقد أعان نظام الملك على دعوته ما عرف عنه من الصلاح والتديّن وحبّ العلماء، فقد كان يقدّمهم ويقف إجلالًا لهم، وربّما تنازل عن مسنده إكراماً لبعضهم، كما كان يفعل إذا قدم عليه إمام الحرمين أو القشيري أو الفارقذي الواعظ، وكان إذا سمع الأذان أمسك عن جميع ما هو فيه،
وكانت له فوق ذلك ميول صوفية ووقائع أحوال تدلّ على هذه النزعة.
وعرف العلماء والفقهاء رغبته في التقريب، وحبّه لطرح الخلاف ونبذ التعصّب، فجروا في مضماره، وتقرّبوا إليه بما يحبّ، وقد روى التاريخ لنا في ذلك حكاية طريفة، هي: أنّ عبد السلام بن محمّد بن يوسف القزويني شيخ المعتزلة دخل عليه يوماً،
وكان عنده أبو محمّد التميمي ورجل آخر أشعري، فقاله له القزويني: «أيّها الصدر، لقد اجتمع عندك رؤوس أهل النار»، قال نظام الملك: «وكيف ذلك»؟ قال: «أنا معتزلي، وهذا مشبِّه- يعني:
التميمي- وذلك أشعري، وبعضنا يكفّر بعضاً»! فضحك النظام.
والمغزى من هذه الواقعة أنّ العلماء وصلوا إلى حدّ التفكّه بأخبار الخلاف في مجلسه، وأخرجوا الأمر فيه مخرج المزح والدعابة، وشتّان بين هذا وما كان من قبل من عنف وحدّة وقطيعة.
الإستعانة بإنشاء المدارس في الدعوة
وقد استعان نظام الملك على دعوته أيضاً بوسيلة نعتبرها حديثة في خدمة المبادئ والدعوة لها، هي إنشاء المدارس، وحشد العلماء لها؛ كي تكون مصدراً للإقناع والتعليم والدفاع... وهذا ما فعله نظام الملك، فقد أقام المدارس النظامية، وافتتح نظامية بغداد بنفسه، وأشرف على هذه المدارس وأولاها رعايته، وتوسّع في إنشائها، ووقف عليها الأموال التي تضمن استمرارها من بعده.
ومع أنّها كانت في أوّل أمرها غير مرضية من العامّة وبعض العلماء،
فقد درّس بها كثير من الأئمّة وأفاضل الأُمّة، كأبي بكر الشاشي، وحجّة الإسلام الغزالي، وأبي نصر بن الصبّاغ، وأبي إسحاق الشيرازي، وغيرهم.
وفي سنة 479 ه دخل السلطان ملك شاه ووزيره نظام الملك بغداد، ونزلا بدار المملكة، وزارا مشهد الإمام موسى الكاظم ابن جعفر الصادق المتوفّى ببغداد سنة 183 ه، وقبره هناك في الجانب الغربي مشهور يزار، وعليه مشهد عظيم، وزارا كذلك قبور جماعة من الأئمّة والصالحين، كمعروف الكرخي المتوفّى سنة 200 ه، والإمام أحمد بن حنبل، وأبي حنيفة، وغيرها من القبور المعروفة، فقال ابن زكرويه الواسطي يهنّئ نظام الملك بقصيدة، منها:
زرتَ الممالك زورةً مشهورة
أرضت مضاجع من بها مدفون
فكأنّك الغيث استهلّ بتربها
وكأنّها بك روضة ومعين
فازت قداحك بالثواب وأنجحت
ولك الإله على النجاح ضمين
وخلع الخليفة على نظام الملك، ودخل إلى المدرسة النظامية،
وجلس في خزانة الكتب، وطالع بعض ما فيها، وسمع الناس عليه في المدرسة جزء حديث، وأملى جزءاً آخر.
ولا شكّ أنّ هذا الصنيع من السلطان ووزيره نظام الملك فيه كثير من اللباقة والكياسة والتوجيه.
وقد كانت المدارس النظامية منبثّة في العراق وإيران وأفغانستان، وكان التعليم فيها يجري كأحسن ما يكون التعليم في عصرنا الحديث،
وكان الأساتذة هم الصفوة المختارة من العلماء، وكان للطلبة بيوت يسكنونها ويرجعون إليها بعد الفراغ من الدرس، وكانت لهم أرزاق تجري عليهم ليفرغوا إلى العلم، وكان لهم زي يميّزهم، وكان يباح للجمهور أن يستمع إلى بعض الدروس، فأقبل الناس عليها، واستنارت العقول، ومن تعلم علّم غيره، وهكذا وجد الشعب الإسلامي طريقاً إلى نور المعرفة وإدراك حقيقة الدين، وهكذا ضربت الدولة في صدر العصبيات والتفرّق ويسّرت للركب العلمي سبيلًا سوياً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً.
وأراد نظام الملك أن يوحِّد الخلافتين: العبّاسية، والفاطمية، فبذل في ذلك جهده، تارةً بالدعوة السلمية وتارةً بالجند. وهدفه الوحيد في كلّ هذا أن يتّحد أهل هذا الدين؛ لتقوى أُمّتهم، ويعود إليها ما لها من عزّة واستقامة ومنعة.
واليوم نرى الدول الغربية تتّحد لمقاومة النازية مثلًا، فتتّخذ من المسيحية جامعاً يؤلّف قلوب أّممها ويوحّد كلمتها، وتصورّر النازية كما تصوّر ما لا تحبّ من المذاهب السياسية بصورة الخارج على المسيحية؛ كي تزيد في بغض الناس لها، وكي تركّز جهود المسيحيّين،
وتؤلّبهم عليها، فهي تتّخذ من دينها ذريعةً لدنياها. ولا يقولنّ أحد: إنّها تتخلّف عن المدينة حين تنادي بالمسيحية، فهي الأُمم صاحبات المدنية، وهي الأُمم الداعيات وقت الحرج والخوف إلى المسيحية.
أفلا نتعظ بالغرب، وندعو دعوة الحقّ، ونتآخى ونتآزر، ونعمل بمبادئ ديننا، ونقيم قواعد الاجتماع والسياسة في دنيانا على أساس ممّا أوصانا به الإسلام المجيد؟!
إنّما ندعو إلى العمل بما في الإسلام من مبادئ قويمة، كلّ دولة في حدودها ولمصالحها، يشدّ بعضنا أزر بعض إذا عرض لنا أمر أمام جماعة الأُمم، ويؤثر بعضنا البعض
إذا وجب الإيثار، ويشجّع بعضنا البعض؛ لتنمو مواردنا، وتعمل الأيدي العاطلة فينا، وليكن الإسلام جامعاً بيننا وهدياً لنا. ورحم اللَّه نظام الملك، أوّل من نصر هذا الرأي، وعمل له».
المراجع
(انظر ترجمته في: الإكمال لابن ماكولا 7: 357، الأنساب للسمعاني 3: 21- 22، المنتظم 16: 302- 307، التدوين في أخبار قزوين 2: 419- 422، الكامل في التاريخ 8: 161- 163، اللباب في تهذيب الأنساب 2: 5 و 3: 365، وفيات الأعيان 2: 128- 131، تاريخ الإسلام للذهبي 33: 23- 24، دول الإسلام 2: 13، سير أعلام النبلاء 19: 94- 96، العبر 3: 307- 308، الوافي بالوفيات 8: 261- 264، مرآة الجنان 3: 103- 105، طبقات الشافعية الكبرى 4: 309- 328، البداية والنهاية 12: 140- 141، شذرات الذهب 3: 373- 375، روضات الجنّات 3: 82- 85، أعيان الشيعة 1: 192 و 5: 165- 169، الأعلام للزركلي 2: 202، مواقف الشيعة 3: 92، موسوعة الأعلام 4: 274).