دلالة صيغة الأمر
دلالة صيغة الأمر: المراد من صيغة الأمر هيئة «إفعل» وإن کانت بصيغة الماضي کـ: کتب عليکم الصيام [١] أو المضارع کـ: «يُهريقهما ويَتيمّم» في جواب من سَئل عن رجلٍ معه إناءانِ وقع في أحدهما نجاسةٌ لا يدري أيهما هو وليس يقدر على ماء غيره. [٢] ولقد ناقش الأصوليون دلالة صيغة الأمر من عدّة جوانب، تذكر تحت العناوين التالية:
1 ـ دلالة صيغة الأمر
اختلف الأصوليون فى دلالة صيغة الامر، ولا شك أنَّها ترد لمعاني كثيرة عدَّها الزركشي إلى ثلاثة وثلاثين، من قبيل: الإيجاب، والإرشاد، والتمني، والدعاء[٣] . والمهمّ من هذه الأقوال هو القول ذات الصلة بالأحكام الشرعية، أي تحديد الدلالة من حيث الوجوب أو الندب أو الإباحة، وذلك يتمّ من خلال معرفة ما وضعت له حقيقة، والأصوليون اختلفوا هنا كذلك، وقد عدَّ الزركشي أقوالهم وآراءهم في هذا المجال باثني عشر قولاً[٤] . والآراء المهمّة، هي:
الرأي الأوّل: الوجوب
وقد ذهب إليه الكثير مثل: القاضي أبو يعلى[٥] ، و الشيخ الطوسي[٦] ، و أبو اسحاق الشيرازي[٧] ، والسرخسي[٨] والغزالي[٩] ، والشاشي[١٠] ، والمحقّق الحلّي[١١] ، و العلاّمة الحلّي[١٢] ، والشيخ جمال الدين العاملي[١٣] ، ومذهب الحنفية[١٤] ، بل جمهور الفقهاء[١٥] وعامتهم[١٦] .
استدلَّ على هذا الرأي بأمور:
الأوّل: سيرة العقلاء القاضية بذمّ العبد إذا خالف أمر مولاه، ولو كان الأمر دالاًّ على الندب لما استدعت مخالفة العبد توبيخهم له، ولو كان مشتركاً لاحتاجوا إلى إيضاح المراد أوّلاً[١٧] .
الثاني: سيرة المسلمين والمتشرعة في تحديد الواجبات والاحتجاج بها إلى أوامر اللّه تعالى والرسول، وذلك منذ عهد الرسول وحتّى الآن، ولو لم تكن مقتضية الوجوب لما صحَّت سيرتهم[١٨] .
الثالث: الآيات، فقد سرد الجصاص آيات اعتبرها دليلاً على دلالة الأمر على الوجوب:
الأولى: «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً»[١٩].
ثُمّ قال: بأنّ الآية تكشف عن دلالة الأمر على الوجوب من وجهين:
الوجه الأوّل: نفي القرآن التخيير فيما أمر به اللّه، مع أنّ الذي يقول بدلالة الأمر على الندب لا ينفي التخيير.
الوجه الثاني: قوله تعالى: «وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» يكشف عن اعتبار المخالف للأمر عاصياً، وهذا شأن الواجبات لا المندوبات.
الثانية: «فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ»[٢٠] ويرى من الواضح أنّ الوعيد لا يلحق تارك الندب والمباح.
الثالثة: «مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ»[٢١] فعلّق الذمّ على ترك الفعل المأمور به، ما يعني أنّ تارك الأمر يستحقّ اللوم، وهو شأن الواجبات لا المندوبات[٢٢] .
الرابع: الروايات، فقد روي عن النبي (ص) قوله لبُريرة بعد عتقها واختيارها مفارقة زوجها: «ارجعي إلى زوجك، فإنّه أبو ولدك، وله عليك حقّ» فقالت: يا رسول الله، أتأمرني بذلك؟ فقال (ص): «إنّما أنا شافع»[٢٣] . فإنّ عدول النبي عن الأمر إلى الشفاعة يكشف عن وجود فرق بينهما، وكون الأمر يقتضي الإيجاب[٢٤].
واستدلّ أبو يعلى الفرّاء بأحاديث شريفة مثل الحديث الوارد في بريرة، وكذلك قول الرسول (ص): «لولا أن أشق على اُمتي لأمرتهم بالسواك عند كلّ صلاة»[٢٥] . ومن المعلوم أنّ السواك مستحبّ، فدلَّ على أنّه لو أمر به لوجب.
وحديث آخر، أنّ رسول الله (ص) مرَّ برجل يصلّي فدعاه فلم يجبه، فلمّا فرغ من الصلاة قال: «ما منعك أن تجيبني؟» قال: كنت في الصلاة، فقال عليه السلام: «أمّا سمعت الله يقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم»[٢٦]؛[٢٧] . فعاتبه الرسول على مخالفة أمر الله تعالى المطلق الوارد في الآية[٢٨] .
الخامس: إجماع الصحابة واحتجاجاتهم فيما بينهم بالأوامر، من قبيل: احتجاج أبي بكر على عمر[٢٩] ، بقوله تعالى: «وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ»[٣٠] ورجوع ابن عمر إلى حديث رافع في المساقاة... وهذا يكشف عن أنَّه كان مقرّراً لديهم كون إطلاق الأمر يقتضي الوجوب[٣١] .
السادس: العقل، فقد استدلَّ الشاشي على هذا الرأي، بأنَّ ترك الأمر يستلزم العصيان، مع أنَّ الائتمار يستلزم الطاعة، ولزوم الائتمار يكون بقدر ولاية الآمر على المخاطب، فإذا كان الآمر موجّهاً إلى من يلزمه طاعته لزم الائتمار، ولو ترك الائتمار اختياراً استحقَّ العقاب عرفاً وشرعاً[٣٢] .
السابع: الوضع، فقد نسب الشوكاني إلى الجمهور كون الصيغة موضوعة للوجوب لغةً وشرعاً، ونسب إلى البلخي، وأبي عبد اللّه البصري، وأبي طالب بوضعها شرعاً للوجوب[٣٣] .
وقد ردّ السمرقندي الاستدلال بالنصوص التي ذكرت دليلاً على القول باقتضاء الأمر الوجوب، ويذكر الوجهين التاليين:
الأوّل: أنّ دلالة الصيغة على الوجوب فيها مستنبط من اقتران الأمر بالوعيد، ووجود الوعيد قرينة على انصراف الأمر إلى الواجب.
الثاني: أنّ موافقة الرسول واجبة، والمخالفة حرام، لكنّ تحقيق الموافقة اعتقاداً وعملاً، وترك المخالفة في الموارد المزبورة في النصوص مبهمة، فلذلك يتوقّف ولا يحكم بالوجوب أو الندب بعينه[٣٤] .
ويردُّ دليل الإجماع، الذي استدلّ به على اقتضاء الأمر الوجوب، بأنّه قائم على لزوم طاعة الأوامر التي تعني موافقة الأمر والإتيان بما أمر به على الوصف الذي أمر به من وجوب أو ندب[٣٥] .
الرأي الثاني: الندب
ذهب إليه أبو هاشم[٣٦] ، بل هو قول المعتزلة وكثير من المتكلّمين، ومنهم من نقله عن الشافعي[٣٧] .
واستدلَّ عليه بأنّ العقل لا يدلُّ على الوجوب؛ لأنَّ العقل لا شأن له باللغة، كما أنّ الشرع لا يدلُّ عليه، كما ثبت ذلك بالتواتر[٣٨] .
واستدلّ عليه كذلك بأنّ المعتزلة ترى الأمر يقتضي الإرادة، والحكيم لا يريد في أوامره إلاّ الحسن، فيحمل على القدر المتيقن منه، وهو المندوب، لكن رُدَّ هذا بأنّ الإباحة حسن كذلك، وهو القدر المتيقن لا المندوب[٣٩] .
الرأي الثالث: الإباحة
نقل الآمدي عن البعض دون تحديد ولا استدلال قوله بأنّ صيغة الأمر حقيقة في الإباحة ومجاز فيما سواها[٤٠] .
الرأي الرابع: الطلب
ذهب إلى هذا الرأي السمرقندي[٤١] ، وصفي الدين[٤٢] ، وجلّ الإمامية وبخاصّة متأخّريهم[٤٣] .
وفي هذا المجال يدخل رأي السيّد المرتضى، الذي ذهب إلى انصراف الأوامر الشرعية إلى الوجوب رغم دلالة الأوامر عموماً على القدر المشترك بين الوجوب والندب، أي الطلب[٤٤] ، ولحقه الجويني، فيبدو وجود تطابق بين رأيه وما ذهب إليه السيّد المرتضى[٤٥] . استدلَّ السيّد المرتضى على رأيه بالأمور التالية:
أوّلاً: حمل الصحابة الأوامر الواردة في الكتاب والسنّة على الوجوب، وكان يحاجج بعضهم الآخر بوجود أمر من القرآن أو السنّة، ولم يرد الآخر بأنّه يدلّ على الندب أو أنّ الأمر يتردَّد بين الوجوب والندب. ولم يقتصر هذا على الصحابة، بل كان ذلك شأن التابعين وتابعي التابعين أيضاً.
ثانياً: إجماع الإمامية [٤٦] .
وقد قال الغزالي في (المنخول) باقتضاء الأمر الطلب الجازم[٤٧]، وفسّره في (المستصفى) [٤٨] بما يعمّ الندب كذلك، ودلالة الأمر على الوجوب بحاجة إلى قرينة برأيه[٤٩]. وبهذا المعنى يكون مذهبه هنا هو ذات القول بدلالة الأمر على الطلب؛ باعتباره الجامع بين الندب والوجوب. لكنّ الآمدي نسب إليه القول بالتوقُّف هنا[٥٠] .
والآمدي رغم أنّه توقّف في دلالة صيغة الأمر إلاّ أنّه قال: بأنّ الصيغة حقيقة في الطلب ومجاز في غيره. واستدلّ على هذا الرأي بقوله:
إذا سمعنا أنّ أحداً قال لغيره «افعل كذا» وتجرد ذلك عن جميع القرائن، وفرضناه كذلك، فإنّه يسبق إلى الأفهام منه طلب الفعل واقتضاؤه من غير توقّف على أمر خارج دون التهديد المستدعي لترك الفعل، والإباحة المخيّرة بين الفعل والترك. ولو كان مشتركاً أو ظاهراً في الإباحة، لما كان كذلك. وإذا كان الطلب هو السابق إلى الفهم عند عدم القرائن مطلقاً دلّ ذلك على كون صيغة (افعل) ظاهرة فيه[٥١] .
بعض من الذين ذهبوا إلى هذا الرأي قالوا بدلالة الصيغة على الوجوب، لكنّهم اختلفوا في تبريرها، فبعض مثل المحقّق الخراساني اكتفى بالقول بأنَّ صيغة الأمر حقيقة في الوجوب، ويبدو منه أنَّها تقتضي الوجوب عند الإطلاق[٥٢] .
وناقش بعض الأصوليين في هذه الدلالة[٥٣] .
واستدلَّ المحقّق الآخوند على اقتضاء الأمر الوجوب بالتبادر، ودليل التبادر هو عدم صحّة الاعتذار عند المخالفة إذا احتمل كون المراد من الأمر الندب[٥٤] .
ويردُّ السيّد الخوئي الاستدلال بالتبادر باعتباره لا يكون علامة للحقيقة إلاَّ إذا اُحرز كونه من حاقّ اللفظ، وهذا غير ثابت في المقام؛ لاحتمال أن يكون منشأ التبادر هنا هو الإطلاق ومقدّمات الحكمة[٥٥] ، كما ادَّعى ذلك البعض، مثل المحقّق العراقي[٥٦] .
ويستدلُّ السيّد الخوئي على دلالة الأمر على الوجوب بدليل العقل، فهو يرى أنّ الوجوب ليس مدلولاً لفظياً للصيغة لا بالوضع ولا بالإطلاق بضميمة مقدّمات الحكمة، بل الوجوب مدلول لها بحكم العقل، بمعنى أنَّ الأمر إذا صدر من المولى حكم العقل بوجوب الامتثال وعدم جواز المخالفة بمقتضى قانون العبودية، وأنّ العبد المخالف يستحقّ العقاب ما لم يرخّص المولى في الترك[٥٧] . وإلى هذا ذهب الشيخ المظفر كذلك[٥٨].
وهناك رأي متأخّر يدخل ضمن هذا الرأي، ذهب إليه البعض مثل الشهيد محمّد باقر الصدر، ويرى ـ بناءً عليه ـ أنّ صيغة الأمر حقيقة في الطلب الإلزامي، أي أنّها موضوعة لنحو من النسبة الإرسالية أو البعثية، ولا يمكنها أن تدلّ على الإلزام أو الوجوب بنحو مباشر؛ لأنّها معانٍ اسمية، والصيغة ذات معنى حرفي، لكنّها تلائم الدلالة على الالزام أو الوجوب.
وقوله بالنسبة البعثية دون الإلزام أو الوجوب نفسه يعود إلى أن الصيغة تدلّ على معنى حرفي، وشأنها شأن الحروف. هذا مع أنّه ينفي الدلالة على الوجوب بالعقل ويثبتها بالطرق الأخرى[٥٩] .
الرأي الخامس: التوقُّف
وهو القول بعدم اقتضاء الأمر الوجوب أو الندب، ذهب إلى هذا الرأي أبو الحسن البصري[٦٠] ، والآمدي[٦١] ، رغم تصحيحه كون الصيغة حقيقة في الطلب ومجاز في غيره[٦٢] .ونسبه إلى الغزالي[٦٣] ، بل ادّعى الجويني أنّ أصحابه (الشافعيين) مجمعون على التوقُّف، ونقل عنهم الاستدلال عليه بأنّ صيغة (افعل) غير مختصة بشيء من موارد استعمالها، وليس هناك من اللغة أو الشرع ما يخصصها بأحد الموارد، فيتوقّف ونتطلّع إلى القرينة المحددة[٦٤] .
2 ـ ملاك دلالة الأمر على الوجوب
برغم الاختلاف الوارد في صيغة الأمر ومادّته، فإنّ الشهيد محمّد باقر الصدر ينقل اتّفاق المحقّقين من الأصوليين على دلالتهما على الوجوب، والاختلاف في تبرير الدلالة[٦٥] . وقد يكون ناظراً في كلامه إلى علماء الشيعة فقط أو إلى واقع الأمر، من حيث إنّ الجميع يستفيد عملياً الوجوب من الأوامر الشرعية إلاَّ في الموارد المحدودة.
كما أشار أبو اسحاق الشيرازي إلى هذا المعنى، ونسب القول بالوجوب إلى أكثر أصحابه من الشافعيين[٦٦] .
ومع غضّ النظر عن وجود إجماع في هذا المجال وعدم وجوده، فإنَّ هناك عدّة مسالك نذكر منها[٦٧] :
أ ـ مسلك الوضع
ذهب إلى هذا الكثير من الأصوليين[٦٨] ، بل نسب إلى مشهور الأصوليين[٦٩] ، واستدلّوا على ذلك بالتبادر والوجدان، مع إبطال المسالك الأخرى. لكن أشكل عليه كذلك[٧٠] .
وفسَّر الزركشي كلام المرتضى المتقدِّم في أنّه يقول بالوضع للوجوب من قبل الشارع، وفرَّق بين القول بالوضع في اللغة أو من قبل الشرع، بأنَّا إذا قلنا: بالوضع اللغوي لزم حمل الاوامر جميعها على الوجوب وإن لم تصدر من الشارع، بينما بناءً على الوضع الشرعي تحمل الأوامر الشرعية فقط على الوجوب دون غيرها[٧١] .
ب ـ مسلك حكم العقل
حكاه الزركشي عن القيرواني في (المستوعب) دون أن يوضّح كيفية الدلالة[٧٢] ، كما ذهب إليه من المتأخّرين المحقّق النائيني[٧٣] ، وتبعه السيّد الخوئي[٧٤] .
بناءً على هذا المسلك كون الوجوب ممّا يقتضيه العقل عند صدور الأمر من المولى الواجب إطاعته، وذلك وفقاً لقانون العبودية الذي يقتضي استحقاق العبد العقوبة على المخالفة إلاّ أن يرخّص المولى بالترك[٧٥] .
ردَّ هذا المسلك بردّين:
الردّ الأوّل: وهو الحلّي، بأنَّ موضوع حكم العقل بلزوم الطاعة ليس صدور الطلب مع عدم بيان الترخيص، بل صدوره مع كون واقع نفس المولى آبية عن المخالفة، أي كون الطلب مقروناً بالملاك القوي والشديد في نفس المولى، ولذلك لو علمنا بأنّ المولى تطيب نفسه بالمخالفة عن طريق غير البيان فلا يحكم العقل بلزوم الإتيان بالمأمور به.
الردّ الثاني: وهو النقضي، من حيث إنَّ لهذا المسلك لوازم في الاستنباط الفقهي لا يلتزم بها أصحابه، وهي من قبيل الأمور التالية:
1 ـ يلزم رفع اليد عن دلالة الأمر على الوجوب فيما إذا دلَّ عموم عام على الترخيص، من قبيل أن يقول المولى: «آمرك بإكرام الفقيه» وورد على لسانه أيضاً قوله: «لا يجب إكرام العالم» الأعم من الفقيه وغيره، وهو دالّ بعمومه وإطلاقه على عدم وجوب إكرام الفقيه، ومقتضى الجمع العرفي هو جعل الخاصّ قرينة على العام، فيخصَّص العام بالخاصّ، ونتيجته وجوب إكرام الفقيه، وجواز ترك إكرام غير الفقيه.
لكنَّ هذا الجمع غير ممكن إلاّ عند القول بدلالة الأمر على الوجوب وضعاً أو بمقدّمات الحكمة، أمَّا بناءً على القول بدلالة الأمر على جامع الطلب فلايحصل تعارض بين الدليلين لكي نجمع بينهما بالجمع العرفي؛ لأنّ جامع الطلب منسجم مع الوجوب و الاستحباب وبناءً على القول بدلالة الأمر على الوجوب بحكم العقل يكون لدينا حكم بلزوم الامتثال، وهو معلَّق على عدم صدور الترخيص من المولى، والعام ترخيص، فيكون عموم العام وارداً على حكم العقل ورافعاً لموضوعه، فلم يبق حكم للعقل بوجوب الإطاعة، والعام يكون دون معارض، ومقتضى هذا تقديم العام الدالّ على الترخيص بعدم الإكرام، وهو ممّا لم يلتزم به فقيه.
2 ـ إن كان المراد من عدم بيان الترخيص هو البيان المتّصل، فمعناه حكم العقل باللزوم لو صدر من المولى طلب لم يتّصل بقرينة على الترخيص، أمّا إذا صدر ترخيص منفصل فمعناه تعارض الترخيص المنفصل مع حكم العقل، مع أنّه تستحيل معارضة حكم العقل.
وإن كان المراد من عدم بيان الترخيص هو بيان الترخيص، سواء كان متّصلاً أو منفصلاً، واحتملنا صدور بيان ترخيصي منفصل، فالعقل لا يستقلُّ بالحكم بالوجوب ويبقى معلّقاً على عدم صدور البيان، وتبقى دلالة الأمر على الوجوب مشكوكة، وعندئذٍ يمكن الرجوع إلى مثل حديث الرفع وبعض الأصول العملية لغرض التأمين ورفع الخطاب الأمري[٧٦] .
ج ـ مسلك الاطلاق ومقدّمات الحكمة
ذهب إلى هذا المحقّق العراقي[٧٧] ونُسب إلى المحقّق الخراساني[٧٨] .
وقد قرَّر المحقّق العراقي دلالة الأمر على الوجوب من باب الإطلاق ومقدّمات الحكمة بالنحوين الآتيين:
الأوّل: أنّ الطلب الوجوبي طلب تامّ لا ضعف فيه، بينما الاستحبابي طلب ناقص وفي مرتبة محدودة من حيث الضعف. وعند إطلاق الأمر ينبغي حمله على المرتبة التامة التي لا تحتاج إلى تحديد[٧٩] .
رُدَّ هذا بما يلي:
أ ـ إنّ نتيجة إجراء مقدّمات الحكمة ـ لو جرت في المطلق في ما نحن فيه ـ هي إثبات نفس الطلب، أي القدر المشترك بين الوجوب و الاستحباب، فإنّ المادّة إذا وضعت للقدر الجامع فلا يمكنها أن تفيد غير ما وضعت إليه بـ مقدّمات الحكمة.
ب ـ اعتماد مبدأ ما به الاشتراك في الحقائق الوجودية عين ما به الامتياز لا يغني عن بيان زائد عن نفس الطبيعة لغرض صرف الجامع إلى أحد القسمين؛ لأنَّ الأقسام تمتاز عن المقسم بقيد زائد في المفهوم حتّى لو فرض عدم الزيادة في الوجود[٨٠] .
الثاني: أنَّ الطالب يأمر لأجل التوصُّل إلى إيجاد المأمور به، ولا بدَّ أن يكون طلبه غير قاصر، ولو كان قاصراً كان عليه بيان القصور، والطلب الإلزامي غير قاصر، بينما الطلب الاستحبابي قاصر، فلا بدَّ أن يحمل على الإلزامي[٨١] .
رُدَّ هذا بأنَّه مصادرة على المطلوب، فإنّه من غير الثابت كون الطالب بصدد تحصيل المأمور به على سبيل الحتم والإلزام، وقد يكون الطالب بصدد إحداث الداعي وتحصيل المأمور به في الجملة فقط[٨٢] .
الثالث: وهو ما ذكره الشهيد محمّد باقر الصدر بالمضمون التالي وبناه على ما هو معروف من أنّ الوجوب يتكوّن من جزءين، هما: طلب الفعل والنهي عن الترك، و الاستحباب متكوّن من طلب الفعل مع الترخيص بالترك، فإمتياز الوجوب عن الاستحباب بأمر عدمي، وهو النهي عن الترك، وإمتياز الاستحباب عن الوجوب بأمر وجودي، وهو الترخيص بالترك، وحينما يدور الأمر بين خصوصية وجودية وخصوصية عدمية يرى العرف الحاجة لنصب قرينة لأجل إثبات الخصوصية الوجودية، ولا يرى لزوم ذلك بالنسبة إلى الخصوصية العدمية، من قبيل رؤيته في مجال الإطلاق والتقييد، وهذا هو معنى الإطلاق ومقدّمات الحكمة التي تقتضي إثبات الأمر الأقلّ مؤونة، وهو الوجوب[٨٣] .
وقد اُبطل هذا المسلك لوجود أكثر من إشكال:
أحدهما: أنَّه ليس كلّ أمر عدمي لا يلحظ فيه أمراً زائداً عرفاً، ولأجل ذلك النسبة بين الوجوب و الاستحباب ليست نسبة الأقلّ والأكثر، بل هي نسبة التباين[٨٤] . وهذا ممّا أورده الشهيد محمّد باقر الصدر على التقريب الذي ذكره نفسه.
ثانيهما: أنَّ الفرق بين الاستحباب والوجوب ليس في شدّة الإرادة وضعفها بنحو مطلق، بل أحياناً يخلو المورد من النفع للآمر، ولا يعود للآمر أي نفع من الأمر، كما في أوامر الطبيب، فتارة يأمر الطبيب بنحو الحتم واللزوم، ويظهر له أنّ في تركه خوف الهلاك، وأخرى يأمره لا بنحو اللزوم ويشير إليه بأنَّ في الائتمار بالأمر مصلحة، فالفرق هنا بين الأمرين ليس في شدّة الشوق وضعفه، والأوامر الشرعية من هذا القبيل، فلا يوجد فيها نفع يعود إلى الآمر لكي يفرّق بينها في شدّة الشوق وضعفه[٨٥] .
المصادر
- ↑ سورة البقرة: 183.
- ↑ الوسائل ج 1 أبواب الماء المطلق باب 12 ح 1 ص 124
- ↑ . البحر المحيط 3: 357 ـ 364، إرشاد الفحول 1: 345 ـ 346.
- ↑ . البحر المحيط 2: 365 ـ 370، وأنظر: الإبهاج في شرح المنهاج 4: 1034 ـ 1046.
- ↑ . العدّة في أصول الفقه 1: 152.
- ↑ . المصدر السابق: 172.
- ↑ . التبصرة: 26.
- ↑ . أصول السرخسي 1: 17 ـ 18.
- ↑ . المنخول: 107 ـ 108.
- ↑ . أصول الشاشي: 106.
- ↑ . معارج الأصول: 64.
- ↑ . تهذيب الوصول: 96.
- ↑ . معالم الدين: 46.
- ↑ . الفصول في الأصول 2: 87.
- ↑ . أصول السرخسي 1: 15.
- ↑ . ميزان الأصول 1: 213.
- ↑ . العدّة في أصول الفقه الطوسي 1: 172.
- ↑ . المصدر السابق: 177.
- ↑ . الأحزاب: 36.
- ↑ . النور: 63.
- ↑ . الأعراف: 12.
- ↑ . الفصول في الأصول 2: 89 ـ 90.
- ↑ . كنز العمال 16: 547 ح45838.
- ↑ . العدّة في أصول الفقه الطوسي 1: 176.
- ↑ . الكافي 3: 22 كتاب الطهارة، باب السواك ح1، مسند أحمد 1: 130 ح608 مسند علي بن أبي طالب.
- ↑ . الأنفال: 24.
- ↑ . سنن أبي داود 2: 71، كتاب الصلاة، باب فاتحة الكتاب ح1458.
- ↑ . العدّة في أصول الفقه أبو يعلى 1: 156 ـ 158، تهذيب الوصول: 96 ـ 9.
- ↑ . مسند أحمد 1: 33 ـ 34 ح 118، صحيح البخاري 2: 507 باب وجوب الزكاة ح1335 و6: 2538 باب استتابة المرتدين والمعاندين ح6526.
- ↑ . البقرة: 43.
- ↑ . العدّة في أصول الفقه أبو يعلى 1: 155 ـ 158، وأنظر: التبصرة: 14 ـ 16.
- ↑ . أصول الشاشي: 106 ـ 107.
- ↑ . إرشاد الفحول 1: 339.
- ↑ . ميزان الأصول 1: 223 ـ 224.
- ↑ . المصدر السابق: 224.
- ↑ . الفائق في أصول الفقه 1: 194، التقرير والتحبير 1: 374.
- ↑ . المستصفى 1: 306 ـ 307، البحر المحيط 2: 367.
- ↑ . الفائق في أصول الفقه 1: 207.
- ↑ . الابهاج في شرح المنهاج 2: 17.
- ↑ . الإحكام الآمدي 1 ـ 2: 368.
- ↑ . ميزان الأصول 1: 220.
- ↑ . الفائق في أصول الفقه 1: 187.
- ↑ . أنظر: نهاية الأفكار 1 ـ 2: 179، بدائع الأفكار العراقي 1: 196 ـ 197، بحوث في علم الأصول (الهاشمي) 2: 20 ـ 26، دروس في علم الأصول 2: 94، المحكم في أصول الفقه 1: 227.
- ↑ . الذريعة 1: 53.
- ↑ . البرهان في أصول الفقه 1: 71.
- ↑ . الذريعة 1: 53 ـ 55.
- ↑ . المنخول: 107.
- ↑ . المستصفى 1: 304.
- ↑ . المنخول: 108.
- ↑ . الإحكام الآمدي 1 ـ 2: 369.
- ↑ . الإحكام الآمدي 1 ـ 2: 368.
- ↑ . كفاية الأصول: 70.
- ↑ . مقالات الأصول 1: 449، نهاية الأفكار 1 ـ 2: 161 ـ 162.
- ↑ . كفاية الأصول: 70.
- ↑ . مصباح الأصول 1ق1: 288.
- ↑ . نهاية الأفكار 1ـ2: 162 ـ 163.
- ↑ . مصباح الأصول 1ق1: 291.
- ↑ . أصول الفقه 1 ـ 2: 112 ـ 113.
- ↑ . بحوث في علم الأصول حسن عبدالساتر 4: 111 ـ 127، دروس في علم الأصول 2: 91 ـ 92، المحكم في أصول الفقه 1: 270 ـ 271.
- ↑ . البرهان في أصول الفقه 1: 68 ـ 69.
- ↑ . الإحكام الآمدي 1 ـ2: 369.
- ↑ . المصدر السابق: 368.
- ↑ . المصدر نفسه: 369.
- ↑ . البرهان في أصول الفقه 1: 68 ـ 69.
- ↑ . بحوث في علم الاصول الهاشمي 2: 18.
- ↑ . اللمع: 47 ـ 48.
- ↑ . أنظر : مناهج الوصول 1 : 256 ، بحوث في علم الأصول الهاشمي 2 : 18.
- ↑ . أنظر : البحر المحيط 2 : 365 ، ارشاد الفحول 1 : 345 ، كفاية الأصول : 70 .
- ↑ . بحوث في علم الأصول حسن عبدالساتر 4: 28، بحوث في علم الأصول (الهاشمي) 2: 18.
- ↑ . مناهج الوصول 1: 250 ـ 251.
- ↑ . البحر المحيط 2: 367.
- ↑ . المصدر السابق.
- ↑ . فوائد الأصول 1 ـ 2: 70.
- ↑ . مصباح الأصول 1ق1: 291.
- ↑ . المصدر السابق.
- ↑ . بحوث في علم الأصول حسن عبدالساتر 4: 29 ـ 34.
- ↑ . بدائع الأفكار 1: 197.
- ↑ . بحوث في علم الأصول حسن عبدالساتر 4: 28.
- ↑ . بدائع الأفكار العراقي 1: 197.
- ↑ . مناهج الوصول 1: 253 ـ 254.
- ↑ . بدائع الأفكار العراقي 1: 197.
- ↑ . مناهج الوصول 1: 255.
- ↑ . بحوث في علم الأصول حسن عبدالساتر 4: 38 ـ 39.
- ↑ . دروس في علم الأصول2: 95، بحوث في علم الأصول الهاشمي 2: 22.
- ↑ . مصباح الأصول 1ق1: 290 ـ 298.