دوران الأمر بين النسخ والتخصيص

دوران الأمر بين النسخ والتخصيص: النسخ و التخصيص اصطلاحان أصوليان، والمراد بالنسخ هو ارتفاع الحكم الكلّي الثابت في الشريعة بسبب انتهاء أمده وزوال ملاكه في مقام الثبوت والواقع؛ والمراد بالتخصيص هو ارتفاع الحكم عن بعض أفراد العامّ بسبب التخصيص؛ لأنّ خروج هذه الأفراد يكون خروجا أفراديا وليس أزمانيا كالنسخ، ولأنّ الحكم في الخاصّ أنشئ من أوّل الأمر خارجا عن حكم العامّ رغم دخوله بحسب الظاهر فيه، وإنّما يكون الخاصّ كاشفا عن المراد الواقعي للعامّ، وليس دافعا لبعض أفراده الثابتة واقعا، كما هو الحال في النسخ، ومع ذلك فقد أطلق البعض النسخ الاصطلاحي على التخصيص و التقييد، وذلك إمّا مسامحة في الاستعمال، أو جهلاً بالمقصود منه، بسبب عدم شيوع استعماله في معناه الاصطلاحي آنذاك.

دوران الأمر بين النسخ والتخصيص

ناقش الكثير من الأصوليين موضوع دوران الأمر بين التخصيص و النسخ، ونوقش هذا الموضوع في بحث التخصيص تارة وفي بحث التعارض تارة اُخرى، وفي بعض المصادر نوقش في كلا الموضعين[١].

صور الدوران بين النسخ والتخصيص

ذكر البعض صوراً لهذه المسألة:

الصورة الاُولى: أن يكون الخاصّ متّصلاً بالعام ومقارنا له زمانا

وفي هذه الصورة يحمل على التخصيص؛ لأنّ النسخ رفع الحكم الثابت في الشريعة، والمفروض أنّ العام غير ثابت ليكون الخاصّ رافعا له.

الصورة الثانية : أن يكون الخاصّ بعد العام قبل حضور العمل به

وفي هذه الصورة قد يقال: بعدم جواز التخصيص لاستلزامه تأخير البيان عن وقت الخطاب، لكن يردُّ بجواز تأخير البيان عن وقت الحاجة فضلاً عن تأخيره عن وقت الخطاب.

الصورة الثالثة: أن يكون الخاصّ بعد العام وبعد حضور وقت العمل به

واختلف في الصورة الثالثة، فقد استدلّ على تعيُّن النسخ فيها بعدم معقولية التخصيص لقبح تأخير البيان عن وقت الحاجة، كما استدلّ على تعيّن التخصيص بوجوه هي نفسها التي أوردوها في الصورة الخامسة.

الصورة الرابعة: أن يكون العام بعد الخاصّ وقبل حضور العمل به

وفي الصورة الرابعة يتعيّن التخصيص؛ لأنّ البناء على النسخ يستلزم لغوية جعل الحكم.

الصورة الخامسة: أن يكون العام بعد الخاصّ وبعد حضور العمل به

هذه الصورة هي الواقع فيها جلّ الكلام بين الأصوليين[٢].

الصورة السادسة: ومن الصور أن يكون الترديد في دليل واحد اشتبه في كونه مخصِّصا أو ناسخا للعام

فإنّ البحث في هذه الصورة غير مثمر بالنسبة إلينا في هذا العصر، ومفيّد بالنسبة إلى من كان في عصر التشريع وصدر الإسلام، فعلى القول بكون الخاصّ ناسخا تصحّ أعمال من عمل وفق العام، وعلى القول بكون الخاصّ مخصِّصا لا ناسخا، فذلك يكشف عن بطلان الأعمال الماضية[٣].

رأي الفخر الرازي والزرکشي حول الصور المذکورة

الرازي لم يفصّل بين الصورة الثانية والثالثة ولم يقسّم الحالة إلى ما قبل أو بعد حضور وقت العمل بالأمر، فذهب بالإجمال إلى حمل المورد على النسخ. وكذلك فعل بالنسبة إلى الحالة الرابعة والخامسة، وقال بذهاب الحنفية إلى كون العام ناسخا، بينما رأي الشافعية هو التخصيص، ولم يذكر الدليل[٤]. وهكذا فعل بعض متقدّمي الشيعة[٥].
لكنّ الزركشي نقل تفاصيل في هذه المسألة ونقل عن الهندي بأنّ رأي الرازي خاصّ بما إذا ورد بعد حضور وقت العمل بالعام، فإن ورد قبل حضور العمل كان مخصّصا للعام المتقدّم... وأمّا إذا علم بتقدّم الخاصّ على العام فيحمل على التخصيص، ونسب الحمل على النسخ إلى الحنفية[٦].
مثال هذا الدوران: صدور النهي عن بيع الغرر في ابتداء الهجرة، ونزول: «أوفوا بالعقود»[٧] بعد سنين، أو بالعكس، أي صدور الآية أوّلاً وفي ابتداء الهجرة، ثُمّ صدور النهي عن بيع الغرر بعد سنين. فهنا فرضان:
الفرض الأوّل: إن قلنا بالتخصيص كانت النتيجة عدم وجوب الوفاء بالبيع الغرري، وإن قلنا بالنسخ، أي كون العام ناسخا للخاصّ كانت النتيجة وجوب الوفاء حتّى في البيع الغرري.
الفرض الثاني: إن قلنا بالتخصيص لم يجب الوفاء بالبيع الغرري من الأوّل، وإن قلنا بالنسخ، أي نسخ الخاصّ للعام، لم يجب الوفاء بالعام من حين ورود الخاصّ لا من الأوّل.

رأي المشهور حول الصور المذکورة

ذهب المشهور إلى تقديم التخصيص على النسخ مطلقا، لكن ذهب البعض إلى تقديم النسخ على التخصيص مطلقا.
استدلّ المشهور على رأيه باُمور:
1 ـ النسخ قليل نادر والتخصيص كثير، فيحمل على الكثير الغالب[٨].
2 ـ كون الخاصّ أظهر في دوام الحكم واستمراره من العام في العموم الأفرادي[٩].
3 ـ كون النسخ يتنافى مع ما ورد من كون حلال محمّد حلالاً إلى يوم القيامة وكذا حرامه[١٠]، وأنّ إطلاقه الأزماني قاضٍ بكون الحكم ثابتا بثبوت الإسلام[١١].
لكن ردّ الدليل الأوّل حتّى من قبل الذاهبين إلى هذا الرأي؛ وذلك لأنّ الكثرة تفيد الظنّ بالتخصيص ولا توجب الحمل عليه[١٢].
هذا مع عدم العلم بتقدُّم ورود الخاصّ على حضور وقت العمل بالعام، أمّا مع العلم فيتعيَّن التخصيص؛ لأنّ النسخ حينئذٍ يستلزم البداء المحال على اللّه[١٣].
أمّا في صورة اقتران ورود الخاصّ والعام، أي ورودهما في زمن واحد، فيتعيّن التخصيص لا لكثرته وندرة النسخ، بل من باب أنّ ورود الخاص مقارنا لورود العام يوجب عدم كاشفية ظهور العام في العموم، ويكون من قبيل ظهور القرينة مع ظهور ذي القرينة[١٤].
المحقّق الخراساني ممّن ذهب إلى تقديم النسخ على التخصيص، واستدلّ على رأيه هذا بأنّ الأمر هنا من صغريات بحث دوران الأمر بين التقييد والتخصيص، والنسخ هنا يرجع إلى تقييد الإطلاق الزماني الخاصّ، مع أنّ التقييد مقدَّم على التخصيص؛ لأنّ تقديم التخصيص (الخاصّ) متوقّف على ظهور العام في الدوام والاستمرار الزماني، وهو مستفاد من الإطلاق ومقدّمات الحكمة، فيكون معلّقا على عدم البيان، والعموم الأفرادي للعام تنجيزي مستند إلى الوضع فيكون بيانا له[١٥].
وهناك تفصيلات وصور غير قليلة متصوّرة في المسألة ناقشها بعض الأصوليين[١٦]، كما أنّه قد تكون آراء مفصّلة بين الصور المزبورة[١٧].

الهوامش

  1. . نهاية الدراية في شرح الكفاية 5 ـ 6: 345 و5 ـ 6: 345، تسديد الأصول 1: 533 و2: 500، زبدة الأصول الروحاني 4: 389.
  2. . زبدة الأصول 2: 373؛ زبدة الأصول الروحاني 2: 373.
  3. . مصباح الأصول 3: 381 ـ 382.
  4. . المحصول الرازي 2: 453.
  5. . نهاية الوصول الحلّي 5: 299.
  6. . البحر المحيط 6: 143.
  7. . المائدة: 1.
  8. . تعليقة على معالم الأصول 2: 216، درر الفوائد 1 ـ 2: 681.
  9. . تعليقة على معالم الأصول 2: 216.
  10. . درر الفوائد 1 ـ 2: 681، إفاضة العوائد 2: 392.
  11. . تسديد الأصول 1: 533 ـ 534 و 2: 500 ـ 507.
  12. . كفاية الأصول: 450.
  13. . تعليقة على معالم الأصول 2: 216.
  14. . منتهى الأصول 2: 570 ـ 571.
  15. . كفاية الأصول: 450.
  16. . منتهى الأصول 2: 570 ـ 577.
  17. . نهاية الأفكار البروجردي 5: 151 ـ 155، مصباح الأصول 3: 381 ـ 386، المحكم في أصول الفقه 6: 83 ـ 86.