الفرق بين المراجعتين لصفحة: «التعارض»

من ویکي‌وحدت
(أنشأ الصفحة ب''''التعارض:''' اصطلاح أصولي بمعني تنافي الدليلين في مقام الجعل والتشريع بخلاف التزاحم فإنّه...')
 
لا ملخص تعديل
سطر ١١٥: سطر ١١٥:
لكن وقع الكلام في وجه تقديم أحدهما على الآخر، فبعض ذهب إلى أنّه من باب الجمع العرفي، كما هو رأي المحقّق الخراساني<ref>. كفاية الأصول: 437 ـ 438.</ref>، وبعض آخر ذهب إلى أنّه من باب الحكومة، باعتبار كون الثانوية ناظرة ومفسرة للأولية وعارضة وطارئة عليها. وذهب آخر أيضا إلى التفصيل بين ما إذا كان العنوان الثانوي مثل الضرر والحرج فبالحكومة، وبين ما إذا كان مثل الشرط والنذر فبالجمع العرفي ، وهو ما ينسب إلى بعض محشي ( كفاية الأصول ) .
لكن وقع الكلام في وجه تقديم أحدهما على الآخر، فبعض ذهب إلى أنّه من باب الجمع العرفي، كما هو رأي المحقّق الخراساني<ref>. كفاية الأصول: 437 ـ 438.</ref>، وبعض آخر ذهب إلى أنّه من باب الحكومة، باعتبار كون الثانوية ناظرة ومفسرة للأولية وعارضة وطارئة عليها. وذهب آخر أيضا إلى التفصيل بين ما إذا كان العنوان الثانوي مثل الضرر والحرج فبالحكومة، وبين ما إذا كان مثل الشرط والنذر فبالجمع العرفي ، وهو ما ينسب إلى بعض محشي ( كفاية الأصول ) .
لكن أشكل على الرأي القائل بالتفصيل بأنّ الشرط ليس من قبيل العناوين الثانوية أصلاً، والعناوين الثانوية وإن كانت كثيرة لكن الشرط ليس منها<ref>. أنوار الأصول 3: 451 ـ 453، عناية الأصول 6: 8 ـ 9.</ref>.
لكن أشكل على الرأي القائل بالتفصيل بأنّ الشرط ليس من قبيل العناوين الثانوية أصلاً، والعناوين الثانوية وإن كانت كثيرة لكن الشرط ليس منها<ref>. أنوار الأصول 3: 451 ـ 453، عناية الأصول 6: 8 ـ 9.</ref>.
=أقسام التعارض=
ذكرت أقسام غير قليلة للتعارض، تناولت مجملها الحالات المتصوّرة للدليلين (أو الأدلّة) عندما يكونان متنافيان، فقد يكونان من الكتاب أو من السنّة أو أحدهما  من الكتاب والآخر من السنّة أو بين الكتاب والاجماع أو القياس، وقد يكون التنافي بين القياسين<ref>. البحر المحيط 6: 111 ـ 112، المختصر الوافي: 244 ـ 245.</ref>، كما أنّه قد يكون لكلّ قسم أقسام عديدة، فإنّ التعارض في  الأحاديث قد يسعى في حلّه من خلال النظر إلى دلالة  كلٍّ منهما وقد يسعى لحلّه من خلال النظر إلى سند  كلٍّ منهما، فيبحث عن المرجّحات في كلٍّ من الأمرين.
نعرض لهذه الأقسام في باب الحكم، ونقتصر هنا على ذكر التقسيمات المنصبّة على التعارض نفسه، والتي اكتسبت اصطلاحا يتداوله الأصوليون.
==القسم الأول: التعارض المستقر وغير المستقرّ==
برغم أنّ الكثير من الأصوليين لم يفرّق بين التعارض المستقرّ وغير المستقرّ<ref>. أنظر: الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 463 ـ 464، البحر المحيط 6: 111، الوافية: 321 ـ 323.</ref>، لكنّ كثيرا من متأخّري أصوليي الشيعة أكّدوا هذا التقسيم، بل هو من إبداعاتهم، ووردت عنهم أحكام خاصّة لكلٍّ منهما.
التعارض غير المستقرّ: هو الذي تطبّق عليه قواعد الجمع العرفي، ويزول بمجرّد تطبيقها بتعديل إحدى الدلالتين على وفق الدلالة الاُخرى. وهي من قبيل: التخصيص أو التقييد أو الحكومة<ref>. نهاية الدراية الصدر: 28، دروس في علم الأصول 2: 537.</ref>. ويسمّى بدويّا؛ باعتبار أنّه يبدو تعارضا في البدء ولا تعارض في الواقع.
وعرّف التعارض المستقرّ بعبارات من قبيل:
هو التنافي بين الدليلين بنحو يسري إلى دليل الحجيّة، فيقع التنافي في اقتضاءات دليل الحجّية العام لشمول الدليلين معا<ref>. بحوث في علم الأصول الهاشمي 7: 219.</ref>.
أو التعارض الذي يكون بلحاظ دليل الحجّية، لتنافي مفادي الدليلين مع تمامية عموم دليل التعبُّد في كلٍّ منهما<ref>. المحكم في أصول الفقه 6: 129 ـ 131.</ref>. ويوصف بأنّه لا يمكن معه الجمع العرفي<ref>. مستمسك العروة الوثقى 2: 265.</ref> أو لا يمكن فيه العلاج بالجمع العرفي<ref>. دروس في علم الأصول 2: 530.</ref>.
أو الذي لا يمكن علاجه ويسري التعارض فيه إلى دليل الحجّية، أي مع حصوله يستحيل ثبوت حجّية كلا الدليلين المتعارضين؛ لأنّ إثباتها يؤدّي إلى إثبات كلٍّ منهما ونفيه في وقت واحد، فالتنافي حاصل في المدلول<ref>. المصدر السابق.</ref>. ويسمّى التعارض الحقيقي أيضا<ref>. منتهى الدراية الشوشتري 10: 60، تهذيب الأصول 1: 517.</ref>.
==القسم الثاني: التعارض الإثباتي والثبوتي==
التعارض الإثباتي: هو التعارض غير المستقرّ المتحقّق  في مرحلة الإثبات والدلالة دون السراية إلى مرحلة الثبوت، كالتعارض بين العام والخاصّ، والمطلق والمقيّد.
التعارض الثبوتي: هو التعارض المستقرّ بين مدلولي الدليلين بالذات وبين الدالّين بالعرض، وهو الذي يبحث عن مرجّحات طرفيه من حيث السند أو المضمون أو الجهة، ويحكم فيه بالتساقط أو التخيير أو ما شابه<ref>. الرافد في علم الأصول: 55 ـ 56.</ref>.
==القسم الثالث: التعارض المستوعب وغير المستوعب==
التعارض المستوعب: هو التعارض المستقرّ الذي يستوعب تمام مدلول الدليل، كما في الدليلين المتعارضين الواردين على موضوع واحد مع كون النسبة بينهما التباين.
والتعارض غير المستوعب: هو التعارض المستقرّ الذي يشمل جزء من المدلول، كما في العامين من وجه<ref>. دروس في علم الأصول 2: 563، بحوث في علم الأصول الهاشمي 7: 223 و 225.</ref>.
==القسم الرابع: التعارض الذاتي والعرضي==
التعارض الذاتي: هو التعارض الحاصل من خلال مؤدّى الدليلين ذاتيهما، بأن يوجب أحدهما الدعاء عند رؤية الهلال وينفي الآخر وجوبه.
التعارض العرضي: هو التعارض الحاصل لأمر عارض خارج عن مؤدّى الدليلين، من قبيل: التعارض بين ما دلّ على وجوب صلاة ظهر يوم الجمعة ووجوب صلاة الجمعة، فإنّ التعارض بين هذين الدليلين يحصل بملاحظة دليل ثالث يثبت عدم وجوب فرضين على المكلّف في ذلك الوقت، ومن خلال الدليل الثالث يثبت لدينا كذب أحد الدليلين<ref>. تحريرات في الأصول 7: 357، مصباح الأصول 3: 390، المحكم في أصول الفقه 6: 263 ـ 264 و 283، بحوث في علم الأصول الهاشمي 7: 21.</ref>.
==القسم الخامس: التعارض السندي والدلالي==
التعارض السندي: هو التعارض الذي نعود فيه إلى السند لأجل معالجته، من قبيل: التعارض المستوعب الذي نعود فيه إلى السند ونلجأ إلى إعمال المرجّحات السندية من أعلمية وأورعية الراوي وما شابه ذلك.
والتعارض الدلالي: هو التعارض الذي يعود إلى مضمون الدليلين المتعارضين، وهو عنوان شامل لكلٍّ من التعارض المستقرّ وغير المستقرّ. ولأجل معالجته نعود إلى المعالجات الدلالية، كحمل أحدهما على خلاف الظاهر أو على القدر المتيقّن أو ما شابه ذلك<ref>. منتقى الأصول 7: 360، در المنضود 1: 273، شرح العروة الوثقى الصدر 1: 490 ـ 491.</ref>.
=أحکام التعارض=
المنهج المألوف والدارج لدى جمهور قدماء ومتقدّمي أصوليي أهل السنّة منهم دراسة التعارض عبر المراحل التالية:
==المراحل الأربعة لرفع التعارض==
المرحلة الاُولى: الجمع بين المتعارضين.
المرحلة الثانية: ترجيح ما له فضل ومزية على الفاقد لهما.
المرحلة الثالثة: الحكم بنسخ أحد المتعارضين لمقابله عند عدم إمكان الجمع بينهما.
المرحلة الرابعة: سقوط المتعارضين، وذلك عند تكافؤ الدليلين المتعارضين.
استدلّ الجمهور على رأيه باُمور:
منها: كون الشارع قد طرح الأدلّة للاستفادة منها كلّها لا لتعطيل بعضها.
منها: كون الجمع ينزّه الأدلّة عن النقص ويزول به الاختلاف.
وورد عن بعض الحنفية تقديم الترجيح على الجمع وذلك بالنحو التالي:
1 ـ إن علم بتاريخ المتعارضين نسخ اللاحق السابق.
2 ـ إن لم يعلم بتاريخ المتعارضين رجّح أحدهما بأحد المرجّحات المذكورة في محلّها.
3 ـ إن لم يكن مرجّح تساقط المتعارضان وأخذ بالأدنى منهما وفق الترتيب التالى:
أ ـ إذا تعارض آيتان يتركان ويؤخذ بالسنّة.
ب ـ إذا تعارض سنّتان يتركان ويؤخذ بالقياس.
ج ـ إذا تعارض قياسان يكون المجتهد مخيّرا بينهما.
د ـ إذا تعارض الآيتان أو السنتان ولم يجد المجتهد الأدون منهما يحكم بالأصل في المسألة قبل ورود الدليلين.
واستدلّوا على رأيهم باُمور:
منها: اتّفاق العلماء على تقديم الراجح على المرجوح.
منها: كون سيرة الصحابه قائمة على ترجيح أحد الدليلين عند التعارض.
ومنها: دعوى إجماع العلماء على تقديم الترجيح على الجمع.
كما نسب للمحدّثين الترتيب التالي في معالجة التعارض:
1 ـ الجمع بينهما إن أمكن.
2 ـ إن لم يمكن وعلم بتاريخهما يقدَّم المتأخّر منهما كناسخ.
3 ـ إن لم يعلم بالتاريخ يرجّح أحدهما وفق المرجّحات الثابتة.
4 ـ إن لم يكن هناك مرجّح يحكم بالتوقّف أو التساقط<ref>. فواتح الرحموت 2: 195، التقرير والتحبير 3: 3، المستصفى 2: 139، التعارض والترجيح بين الأدلة 1: 265 ـ 299، بحوث في التعارض والترجيح: 10 ـ 15، مصادر التشريع ومنهج الاستدلال: 491، أصول الفقه الإسلامي شلبي: 527 ـ 528، المختصر الوافي في أصول الفقه: 247 ـ 251.</ref>.
وقريب من منهج جمهور أصوليي أهل السنّة منهج بعض قدماء ومتقدّمي أصوليي الشيعة<ref>. العدّة الطوسي 1: 143 ـ 155، معارج الأصول: 154 ـ 158، نهاية الوصول (الحلّي) 5: 276 ـ 365، زبدة الأصول (البهائي): 169 ـ 172، الوافية: 319 ـ 339.</ref>، والاختلاف بينهما قد يكون ناشئا عمدة عن عدم اعتدادهم بالأدلّة الظنّية إلاّ الأخبار منها، كما يصرّح بعضهم بذلك<ref>. معالم الدين: 249.</ref>، فحصروا بحوثهم في التعارض بينها فحسب، أمّا مثل تعارض آيتين فالحكم هو الجمع بالتخصيص والتقييد وما شابه، كما هو واضح.
==انحصار البحث لدی متأخّري الشيعة في الحالتين==
أمّا منهج متأخّري الشيعة فغالبا يبحث التعارض في الحالتين التاليتين:
===الحالة الاُولى: التعارض غير المستقرّ===
والحكم الكلّي لحالة التعارض غير المستقرّ هو الجمع العرفي، وله موارد عديدة بحسب نوعية التعارض الحاصل بين الدليلين.
====الجمع بين الدليلين====
تطرح معالجة الجمع عند حصول التعارض غير المستقرّ، حيث لا يوجد تنافٍ في اقتضاءات دليل الحجّية، إمّا لعدم المحذور في فعلية اقتضاءات الحجّية للشمول لكلا الدليلين وإمّا لعدم وجود اقتضاء في الدليل لتخصيصه بأحدهما برغم الشمول لكلا الدليلين<ref>. بحوث في علم الأصول الهاشمي 7: 45.</ref>.
لم يرد تعريف محدّد للجمع بين الدليلين، لكن من الواضح ومن خلال تتبّع كلمات الأصوليين، نجد أنّ المراد منه هو التوفيق بين الدليلين، أي حمل الدليلين أو أحدهما على معنى غير ما يبدو في الوهلة الاُولى، من قبيل: حمل العام على الخاصّ والمطلق على المقيّد، والأمر على الاستحباب، والنهي على الكراهة، أي تأويله أو تأويلهما بما يجعل الوفاق بين مضمونيهما ويرفع التنافي بينهما.
ويقابل اصطلاح الجمع اصطلاح الطرح الذي يعني إلغاء أو إسقاط الدليل عن دلالته واعتباره كالعدم.
رغم ذلك نجد بعض العبارات قد تصلح تعريفا لمصطلح الجمع، من قبيل قولهم:
كون الجمع هو التصرّف أو تأويل أحد الدليل أو كليهما على وجه يرتفع التنافي بينهما، أو الأخذ ببعض المفاد من كلٍّ منهما أو من أحدهما<ref>. درر الفوائد 2: 645، إفاضة العوائد 2: 356، كتاب التعارض: 114 ـ 211، اصطلاحات الأصول: 193، دروس في علم الأصول 2: 535 و2: 544.</ref>.
كما أنّ للجمع أنحاء مختلفة، وفقا للقرائن التي قد تفرض إقرار الحكومة أو الورود أو التخصيص أو التقييد أو الأظهرية أو ما شابه ذلك.
====شرائط الجمع====
شرائط الجمع بين الدليلين هي ذاتها التي وردت في التعارض غير المستقرّ، فإنّ ما ذكر من شرط أو شروط للتعارض غير المستقرّ هي شروط للجمع كذلك، لأنّ التعارض غير المستقرّ لا يتأتّى مع إمكان حصول الجمع.
برغم ذلك ورد عن البعض سردهم لمجموعة من الاُمور عنونوها شروطا للجمع، من قبيل:
1 ـ أن يكون كلا المتعارضين حجّة.
2 ـ ألاّ يؤدّي الجمع إلى بطلان نصّ من نصوص الشريعة أو بطلان جزء منه.
3 ـ مساواة الدليلين المتعارضين، فلا تعارض بين المختلفين، من حيث الضعف والقوّة.
4 ـ ألاّ تكون النسبة بين المتعارضين تناقض أو تضادّ، وإلاّ يحمل أحدهما على اُمور من قبيل كونه ناسخا للآخر.
5 ـ ألاّ يكون أحد المتعارضين ممّا عمل الاُمّة أو جمهورهم بخلافه.
6 ـ ألاّ يكون الجمع بالتأويل البعيد.
7 ـ ألاّ يعلم بتأخُّر أحدهما عن الآخر.
8 ـ أن يكون المجموع به من المتعارضين من المعاني المحتملة للفظ.
9 ـ أن يصدر الجمع ممّن هو أهل للتأويل والجمع.
10 ـ ألاّ يخرج الجامع أو المجتهد بجمعه عن حكمة التشريع وسرّه.
11 ـ أن يقوم دليل على صحّة الجمع والتأويل<ref>. التعارض والترجيح بين الأدلّة الشرعية 1: 348 ـ 384.</ref>.
وكما هو واضح فإنّ جلّها صالحة لئن تكون شروطا للتعارض غير المستقرّ، برغم أنّ بعضها تناولت جزئيات الجمع وكيفياته، من قبيل ألاّ يكون الجمع بالتأويل البعيد،  أو تناولت شرط مَن يقوم بالجمع، وهو أن يكون أهلاً لهذا العمل.
====أقسام الجمع====
وردت في كلمات الأصوليين الأقسام التالية للجمع:
=====1 ـ الجمع العرفي=====
وهو الجمع الذي تتمّ من خلاله معالجة التعارض عبر التصرّف في دلالة أحد الدليلين أو كلاهما، بأن يخصَّص أحدهما أو يقيَّد، وبذلك يشمل كلّ ملائمة وتوافق يمكن إيجاده بين دليلين، على أن يكون عنصر الإطلاقات والاستخدامات العرفية حاصلاً فيه، ويدخل ضمن نطاق قواعد المحاورات العرفية، فيشمل مثل الورود والحكومة<ref>. فوائد الأصول 3: 255 و 264، منتهى الأصول 2: 564 ـ 565، نهاية الأفكار 5: 125، أصول الفقه المظفر 3 ـ 4: 234.</ref>.
وقد سمّاه البعض أو وصفه بالمقبول<ref>. فرائد الأصول 4: 73 و 119 و 136، نهاية الدراية 5 ـ 6: 298، إفاضة العوائد 2: 354.</ref> والدلالي<ref>. نهاية الأفكار العراقي ج4، ق2: 131 و 139 و 159، منتهى الأصول 2: 565، محاضرات في أصول الفقه 2: 339.</ref> والدلالتي<ref>. بلغة الفقيه 3: 59، أصول الفقه المظفر 3 ـ 4: 231 و3 ـ 4: 234.</ref> والعقلائي<ref>. تحريرات في الأصول 2: 98 و 3: 362، تهذيب الأصول 1: 389.</ref>.
ويذكر البعض: إنّ المعيار في الجمع العرفي هو أقوائية أحد الظهورين، وباعتبار اختلاف القرائن الدالّة على هذا فتختلف الأقوائية حسب اختلاف رؤية الفقيه<ref>. المحكم في أصول الفقه 6: 78 ـ 79 و 89، عناية الأصول 6: 11، كتاب الصلاة الآملي: 335، نهاية النهاية 2: 243.</ref>. ولذلك ورد عن البعض قوله: بأنّ أصول الفقه لا يبحث عن القرائن الخاصّة الجزئية للجمع الدلالي، فهي لا تدخل تحت ضابطة كلية، بل يبحث عن القرائن الكلّية التي تشكّل قاعدة عامّة وقانونا كليا للجمع الدلالي<ref>. أنوار الأصول 3: 455.</ref>.
=====2 ـ الجمع التبرّعي=====
وهو الجمع الذي يخرج عن نطاق قواعد المحاورات العرفية، أو يعود إلى تأويل الكلام بنحو لا يساعد عليه العرف من أهل المحاورة، ولا شاهد عليه ولا دليل يثبته، من قبيل: حمل أحد الدليلين على مورد نادر جدّا، ولذلك يعتبره الأصوليون غير حجّة ولا عبرة به<ref>. منتهى الأصول 2: 565، أصول الفقه المظفر 3 ـ 4: 230، أجود التقريرات 4: 290، زبدة الأصول (الروحاني) 4: 330.</ref>، ويُدعى الجمع العقلي كذلك<ref>. تهذيب الأصول 1: 539، مناهج الوصول إلى علم الأصول 2: 335، منتهى الدراية 9: 499.</ref>.
=====3 ـ الجمع الموضوعي والجمع الحكمي=====
وهو تقسيم ناظر إلى محلّ الجمع بين الدليلين، فإذا كان التصرّف عند الجمع في الموضوع سمّي موضوعيا، وذلك من قبيل: القول بكون موضوع أحد الدليلين أخصّ من الآخر، وإذا كان التصرّف في حكم الدليل سمّي حكميا، وذلك من قبيل: القول بكون حكم أحدهما أخصّ من الآخر.
لقد ورد هذا التقسيم عن بعض الأصوليين وذكرت له فوائد من قبيل كون الجمع الموضوعي مقدَّما على الجمع الحكمي<ref>. فقه الصادق 8: 92 و199 ـ 200 و10: 453 و11: 60 و69، منتهى الدراية 6: 383 و9: 569.</ref>.
====نماذج من الجمع العرفي====
ويمكن ذكر الاُمور التالية كنماذج تبحث في محالها للجمع العرفي:
1 ـ تقديم الخاصّ على العام. ( تخصيص، تخصُّص)
2 ـ تقديم الدليل الوارد على المورود. ( ورود)
3 ـ تقديم الدليل الحاكم على المحكوم. ( حكومة)
4 ـ تقديم الدليل المقيّد على المطلق. ( تقييد)
5 ـ تقديم الناسخ على المنسوخ أو تقديم النصّ الأحدث على المتقدّم. ( نسخ)
6 ـ تقديم الأهمّ على المهمّ عند التزاحم. ( تزاحم)
7 ـ تقديم النصّ على الظاهر. ( ظهور، نصّ)
8 ـ تقديم الأظهر على الظاهر. ( ظهور)
9 ـ تقديم القرينة على ذي القرينة. ( قرينة)
10 ـ  تقديم الأصل السببي على الأصل المسبَّبي.
( الأصل السببي والمسبّبي)
11 ـ تقديم الدليل القطعي على الظنّي. ( حجّية، ظنّ، قطع)
12 ـ التصرّف في مضمون أحد الدليلين وحمله على ما يجعله غير متنافٍ مع الدليل الآخر، من قبيل حمله على العناوين الثانوية كالتقية.
====نماذج مختلف فيها====
برغم أنّ الموارد المتقدّمة لا تخلو من نقاشات وردت في محالها إلاّ أنّ هناك الكثير من الموارد التي اختلف في التقديم والتأخير فيها<ref>. تقريرات المجدد الشيرازي 1: 175 ـ 209، هداية المسترشدين 1: 290 ـ 333، تعليقة على معالم الأصول 2: 204 ـ 228، التعارض والترجيح بين الأدلّة 2: 113 ـ 771.</ref>، نورد الموارد التالية التي قد تكون أهمّها أو وقعت موضع نقاش أكثر من غيرها :
=====النموذج الأول: تعارض الفعل والقول=====
مثَّلوا للتعارض بين الفعل والقول بقوله صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بعد نزول آية الحج: «من قرن الحجّ إلى العمرة فليطف لهما طوافا واحدا»<ref>. سنن الترمذي 3: 283 كتاب الحج باب 102 ح947، سنن النسائي 5: 226 كتاب مناسك الحجّ باب طواف القارن.</ref> وروي عنه إنَّه قرن فطاف لهما طوافين وسعى سعيين.<ref>. سنن الدارقطني 2: 258 كتاب الحجّ باب المواقيت ح99 و130 و263، كنز العمال 5: 160 كتاب الحجّ باب القران ح12461.</ref>
وقد ذكرت في هذا المجال حالات عديدة وأقوال مختلفة، عدّها البعض إلى ستّين حالة.<ref>. العدَّة في أصول الفقه الطوسي 2: 589، الذريعة 2: 595، معارج الأُصول: 121، الأحكام (الآمدي) 1 ـ 2: 163 ـ 167، البحر المحيط 4: 196، إرشاد الفحول 1: 177، التعارض والترجيح بين الأدلّة 2: 312 ـ 321، المختصر الوافي في أصول الفقه: 246 ـ 247.</ref>
( أفعال الرسول)
=====النموذج الثاني: تعارض الفعلين=====
تعارض الفعلين، بمعنى إتيانهما في زمان واحد وبنفس الظروف، أمر غير ممكن، لكنّه ممكن على فرض وجودهما في زمانين، وعندئذٍ لابدّ من معالجتهما بالنحو الذي تعالج به النصوص بعد التأكُّد من صحّة نقل الفعل وعدم الوضع والتزوير، وذلك بحمل الثاني على كونه ناسخا للأوَّل أو كونه ذا شروط خاصّة تختلف عن الآخر.<ref>. المعتمد 1: 359، معارج الأُصول: 121.</ref>
رغم ذلك نقل خلاف وأقوال في هذا الموضوع<ref>. الذريعة 2: 593 ـ 594، المحصول ابن العربي: 111، المنخول: 227، البحر المحيط 4: 192، المختصر الوافي في أصول الفقه: 245 ـ 246.</ref>.
( أفعال الرسول)
=====النموذج الثالث: دخول التعارض في انقلاب النسبة=====
انقلاب النسبة اصطلاح يطلق عند تعارض أكثر من دليلين في وقت واحد، حيث تكون نسبة خاصّة بين دليلين تنقلب عندما تتعارض مع دليل ثالث. وهناك نقاش في كيفية علاج هذه الحالة واختلاف في وجهات النظر، وردت عن متأخّري أصوليي الشيعة<ref>. أنظر: عوائد الأيّام: 349 ـ 353، فرائد الأصول 4: 111، أجود التقريرات 4: 300 وما بعدها، مصباح الأصول 3: 386، كفاية الأصول: 452، دُرر الفوائد 1 ـ 2: 681 ـ 683، بحوث في علم الأصول الهاشمي 7: 288.</ref>.
=====النموذج الرابع: التقديم وفق ترتيب الأدلّة=====
اختلفت المذاهب في تقديم الأدلّة الأساسية بعضها على الآخر، فقد يقدَّم أقوال الصحابة مثلاً على الاجماع والعقل، وقد يقدَّم الاستحسان على الاستصحاب والعقل، وهكذا باقي الأدلّة.
ومن جانب آخر، فإنّ أصوليي الشيعة بتفصيلات بحوثهم المتأخّرة قدّموا الطرق والأمارات على الأصول الشرعية الإحرازية، كما قدّموا الأصول الشرعية العملية غير الإحرازية (سواء كانت تعبّدية أو غير تعبّدية) على الأصول العقلية العملية، وهو ما يتناوله الفقهاء غالبا في بحوثهم الفقهية عن بعض المسائل الجزئية.
( أصول المذهب، ترتيب الأدلّة)
=====النموذج الخامس: تبرير تقدّم الأمارات والطرق على الأصول الشرعية العملية=====
يبدو اتّفاق الأصوليين على تقديم الأمارات والطرق على الأصول العقلية من باب الورود؛ لأنّها بمثابة البيان الذي يرفع موضوع الأصول العقلية<ref>. فرائد الأصول 4: 12 ـ 13، كتاب التعارض: 77.</ref>، لكنّهم اختلفوا في تبرير تقدُّم الأمارات والطرق على الأصول الشرعية، وتوجد مبرّرات في هذا المجال :
الأوّل: كون أدلّة الطرق والأمارات واردة على أدلّة الأصول باعتبارين:
أ ـ كون المراد من الشكّ والجهل في موضوع الأصول هو عدم قيام الحجّة على الحكم الشرعي، ومع قيام الطرق والأمارات يرتفع الموضوع.
ب ـ المراد من الشكّ والجهل بالحكم هو ما يقابل العلم الأعم من الوجداني والتعبّدي ولو بالوظيفة الظاهرية، فيرتفع موضوع الأصول بمجيء الأمارات.
لكن اعتبر هذا مخالفا للظاهر؛ لأنّ الظاهر من الجهل والشكّ في موضوع أدلّة الأصول الشرعية هو الأمر النفسي أو الصفة النفسانية القائمة في نفس الشاكّ المقابل للعلم بالواقع، لا ما ذكر في الوجهين الماضيين<ref>. كتاب التعارض: 89 ـ 90، المحكم في أصول الفقه 6: 111 ـ 112.</ref>.
الثاني: ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري<ref>. فرائد الأصول 4: 13.</ref> والمجدّد الشيرازي<ref>. تقريرات المجدّد الشيرازي 4: 183 و 188.</ref> من كونه من باب حكومة أدلّة الطرق والأمارات على أدلّة الأصول؛ لرفعها لموضوع الأصول الشرعية تعبّدا أو تنزيلاً، بسبب تقيُّد موضوع الأصول شرعا بالشك والجهل، مع أنَّ أدلة الطرق والأمارات مطلقة غير مقيّدة.
وبذلك تكون أدلّة الطرق والأمارات رافعة لموضوع الأصول (وهو الجهل) تعبُّدا أو تنزيلاً وإن كان باقيا حقيقة.
وردّه البعض بعدّة ردود، منها: مبنى أصحاب هذا الرأي هو تنزيل الطرق والأمارات منزلة العلم، بينما هناك رأي آخر، وهو أنّ حجّيتها تعني اعتبارها بحيث يصلح الاعتماد عليها عمليا كما يعتمد على العلم، لا تنزيلها منزلة العلم<ref>. كتاب التعارض: 84 ـ 85، المحكم في أصول الفقه 6: 111 ـ 118، نهاية الدراية الغروي 5 ـ 6: 277 ـ 281.</ref>.
الثالث: التوفيق العرفي، وهو ما ذهب إليه المحقّق الخراساني، حيث يقول: بأنّ العرف لا يتحيّر في مثل هكذا تعارض، ويقدِّم الأمارات على الأصول بعد ملاحظتهما، ولا يلزم منه محذور تخصيص الأكثر، بينما إذا قدّمنا الأصول على الأمارات لزم منه محذور التخصيص بدون مبرّر<ref>. كفاية الأصول: 348.</ref>.
الرابع: إنَّ الأمارات تخصّص الأصول، فالأصول عامّة، وهي من قبيل: (المشكوك حلال) بينما الأمارات من قبيل: (التتن حرام) فهي (الأمارات) أخصّ من الأصول، فتخصّصها<ref>. كتاب التعارض: 90 ـ 92.</ref>.
لكن أشكل على التبرير الثالث والرابع بأنّ المراد من الجمع العرفي إمّا كون الأمارات خاصّة بالنسبة إلى الأصول مطلقا، والحال أنّ الواقع ليس كذلك، إذ بينهما عموم وخصوص من وجه أو أنّ المراد كون أدلّتها أظهر من أدلّة الأصول، وهذا لا دليل عليه<ref>. أنوار الأصول 3: 450.</ref>.
=====النموذج السادس: إذا دار الأمر بين النسخ والتخصيص=====
ناقش الكثير من الأصوليين موضوع دوران الأمر بين التخصيص والنسخ، ونوقش هذا الموضوع في بحث التخصيص تارة وفي بحث التعارض تارة اُخرى، وفي بعض المصادر نوقش في كلا الموضعين<ref>. نهاية الدراية في شرح الكفاية 5 ـ 6: 345 و5 ـ 6: 345، تسديد الأصول 1: 533 و2: 500، زبدة الأصول الروحاني 4: 389.</ref>.
ذكر البعض صوراً لهذه المسألة:
الاُولى: أن يكون الخاصّ متّصلاً بالعام ومقارنا له زمانا.
الثانية : أن يكون الخاصّ بعد العام قبل حضور العمل  به.
الثالثة: أن يكون الخاصّ بعد العام وبعد حضور وقت العمل به.
الرابعة: أن يكون العام بعد الخاصّ وقبل حضور العمل  به.
الخامسة: أن يكون العام بعد الخاصّ وبعد حضور العمل به<ref>. زبدة الأصول الروحاني 2: 373.</ref>.
ومن الصور أن يكون الترديد في دليل واحد اشتبه في كونه مخصِّصا أو ناسخا للعام، فإنّ البحث في هذه الصورة غير مثمر بالنسبة إلينا في هذا العصر، ومفيّد بالنسبة إلى من كان في عصر التشريع وصدر الإسلام، فعلى القول بكون الخاصّ ناسخا تصحّ أعمال من عمل وفق العام، وعلى القول بكون الخاصّ مخصِّصا لا ناسخا، فذلك يكشف عن بطلان الأعمال الماضية<ref>. مصباح الأصول 3: 381 ـ 382.</ref>.
في الصورة الاُولى يحمل على التخصيص؛ لأنّ النسخ رفع الحكم الثابت في الشريعة، والمفروض أنّ العام غير ثابت ليكون الخاصّ رافعا له.
وفي الصورة الثانية قد يقال: بعدم جواز التخصيص لاستلزامه تأخير البيان عن وقت الخطاب، لكن يردُّ بجواز تأخير البيان عن وقت الحاجة فضلاً عن تأخيره عن وقت الخطاب. ( خطاب)
واختلف في الصورة الثالثة، فقد استدلّ على تعيُّن النسخ فيها بعدم معقولية التخصيص لقبح تأخير البيان عن وقت الحاجة، كما استدلّ على تعيّن التخصيص بوجوه هي نفسها التي أوردوها في الصورة الخامسة.
وفي الصورة الرابعة يتعيّن التخصيص؛ لأنّ البناء على النسخ يستلزم لغوية جعل الحكم.
الصورة الخامسة هي الواقع فيها جلّ الكلام بين الأصوليين<ref>. زبدة الأصول 2: 373.</ref>.
الرازي لم يفصّل بين الصورة الثانية والثالثة ولم يقسّم الحالة إلى ما قبل أو بعد حضور وقت العمل بالأمر، فذهب بالإجمال إلى حمل المورد على النسخ. وكذلك فعل بالنسبة إلى الحالة الرابعة والخامسة، وقال بذهاب الحنفية إلى كون العام ناسخا، بينما رأي الشافعية هو التخصيص، ولم يذكر الدليل<ref>. المحصول الرازي 2: 453.</ref>. وهكذا فعل بعض متقدّمي الشيعة<ref>. نهاية الوصول الحلّي 5: 299.</ref>.
لكنّ الزركشي نقل تفاصيل في هذه المسألة ونقل عن الهندي بأنّ رأي الرازي خاصّ بما إذا ورد بعد حضور وقت العمل بالعام، فإن ورد قبل حضور العمل كان مخصّصا للعام المتقدّم... وأمّا إذا علم بتقدّم الخاصّ على العام فيحمل على التخصيص، ونسب الحمل على النسخ إلى الحنفية<ref>. البحر المحيط 6: 143.</ref>.
مثال هذا الدوران: صدور النهي عن بيع الغرر في ابتداء الهجرة، ونزول: «أوفوا بالعقود»<ref>. المائدة: 1.</ref> بعد سنين، أو بالعكس، أي صدور الآية أوّلاً وفي ابتداء الهجرة، ثُمّ صدور النهي عن بيع الغرر بعد سنين. فهنا فرضان:
الفرض الأوّل: إن قلنا بالتخصيص كانت النتيجة عدم وجوب الوفاء بالبيع الغرري، وإن قلنا بالنسخ، أي كون العام ناسخا للخاصّ كانت النتيجة وجوب الوفاء حتّى في البيع الغرري.
الفرض الثاني: إن قلنا بالتخصيص لم يجب الوفاء بالبيع الغرري من الأوّل، وإن قلنا بالنسخ، أي نسخ الخاصّ للعام، لم يجب الوفاء بالعام من حين ورود الخاصّ لا من  الأوّل.
ذهب المشهور إلى تقديم التخصيص على النسخ مطلقا، لكن ذهب البعض إلى تقديم النسخ على التخصيص مطلقا.
استدلّ المشهور على رأيه باُمور:
1 ـ النسخ قليل نادر والتخصيص كثير، فيحمل على الكثير الغالب<ref>. تعليقة على معالم الأصول 2: 216، درر الفوائد 1 ـ 2: 681.</ref>.
2 ـ كون الخاصّ أظهر في دوام الحكم واستمراره من العام في العموم الأفرادي<ref>. تعليقة على معالم الأصول 2: 216.</ref>.
3 ـ كون النسخ يتنافى مع ما ورد من كون حلال محمّد حلالاً إلى يوم القيامة وكذا حرامه<ref>. درر الفوائد 1 ـ 2: 681، إفاضة العوائد 2: 392.</ref>، وأنّ إطلاقه الأزماني قاضٍ بكون الحكم ثابتا بثبوت الإسلام<ref>. تسديد الأصول 1: 533 ـ 534 و 2: 500 ـ 507.</ref>.
لكن ردّ الدليل الأوّل حتّى من قبل الذاهبين إلى هذا الرأي؛ وذلك لأنّ الكثرة تفيد الظنّ بالتخصيص ولا توجب الحمل عليه<ref>. كفاية الأصول: 450.</ref>.
هذا مع عدم العلم بتقدُّم ورود الخاصّ على حضور وقت العمل بالعام، أمّا مع العلم فيتعيَّن التخصيص؛ لأنّ النسخ حينئذٍ يستلزم البداء المحال على اللّه<ref>. تعليقة على معالم الأصول 2: 216.</ref>.
أمّا في صورة اقتران ورود الخاصّ والعام، أي ورودهما في زمن واحد، فيتعيّن التخصيص لا لكثرته وندرة النسخ، بل من باب أنّ ورود الخاص مقارنا لورود العام يوجب عدم كاشفية ظهور العام في العموم، ويكون من قبيل ظهور القرينة مع ظهور ذي القرينة<ref>. منتهى الأصول 2: 570 ـ 571.</ref>.
المحقّق الخراساني ممّن ذهب إلى تقديم النسخ على التخصيص، واستدلّ على رأيه هذا بأنّ الأمر هنا من صغريات بحث دوران الأمر بين التقييد والتخصيص، والنسخ هنا يرجع إلى تقييد الإطلاق الزماني الخاصّ، مع أنّ التقييد مقدَّم على التخصيص؛ لأنّ تقديم التخصيص (الخاصّ) متوقّف على ظهور العام في الدوام والاستمرار الزماني، وهو مستفاد من الإطلاق ومقدّمات الحكمة، فيكون معلّقا على عدم البيان، والعموم الأفرادي للعام تنجيزي مستند إلى الوضع فيكون بيانا له<ref>. كفاية الأصول: 450.</ref>.
وهناك تفصيلات وصور غير قليلة متصوّرة في المسألة ناقشها بعض الأصوليين<ref>. منتهى الأصول 2: 570 ـ 577.</ref>، كما أنّه قد تكون آراء مفصّلة بين الصور المزبورة<ref>. نهاية الأفكار البروجردي 5: 151 ـ 155، مصباح الأصول 3: 381 ـ 386، المحكم في أصول الفقه 6: 83 ـ 86.</ref>.
=====النموذج السابع: تعارض الإطلاق الشمولي مع الإطلاق البدلي=====
وهذا التعارض من قبيل قوله: أكرم عالما. وقوله: لا تكرم الفاسق. فإنّ النسبة بينهما عموم وخصوص من وجه، يتلاقيان في (العالم الفاسق).
وفي هذا الموضوع رأيان:
الأوّل: تقديم الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي.
وقد استدلّ على هذا الرأي باُمور:
1 ـ كون مقدّمات الحكمة في الإطلاق الشمولي تمنع عن جريان مقدّمات الحكمة في الإطلاق البدلي؛ لأنّ من مقدّمات الحكمة في الاطلاق البدلي كون الأفراد متساوية الإقدام في تحصيل غرض المولى، فإنّ القتل وشدّة حرمته تختلف من فرد إلى آخر، وقتل الإمام يختلف شدّة عن قتل الإنسان العادي، ومقدّمات الحكمة في الإطلاق الشمولي تمنع عن ذلك، ولا يمكن العكس<ref>. فوائد الأصول 4: 732، مصباح الأصول 3: 379 ـ 380.</ref>.
2 ـ أنّ تقديم الإطلاق الشمولي يجتمع مع امتثال الإطلاق البدلي وعدم طرده، بخلاف العكس، فإنّه يوجب نفي بعض مصاديق المطلق الشمولي وترك العمل به<ref>. أنوار الأصول 3: 457.</ref>.
3 ـ إنَّ حجّية الإطلاق البدلي تتوقّف على عدم المانع في بعض الأفراد عن التخيير العقلي، والإطلاق الشمولي صالح للمانعية، فلو توقّف عدم صلاحيته للمانعية على وجود الإطلاق البدلي لدار<ref>. المحكم في أصول الفقه 6: 94.</ref>.
وهناك أدلّة ونقاشات اُخرى ذكرها البعض في هذا الرأي<ref>. مصباح الأصول 3: 378 ـ 381.</ref>.
الثاني: وهو ما ذهب إليه بعض المتأخّرين
من أنّ إعطاء ضابط عام في هذا الباب لا يخلو عن تكلّف، فاللازم التأمُّل في خصوصيات الموارد واستظهار القرائن الواردة في كلّ مورد على حدّة<ref>. المحكم في أصول الفقه 6: 92 ـ 96.</ref>.
=====النموذج الثامن: دوران الأمر بين التخصيص والمجاز=====
هذا الدروان يحصل في مثل قوله: لا تكرم الفسّاق، مع قوله: لا بأس بإكرام زيد الفاسق. فكما يمكن رفع اليد عن عموم عدم الإكرام بالتخصيص، كذلك يمكن رفع اليد عن ظهور النهي في الحرمة وحمله على الكراهة، لكي تجتمع مع عدم البأس.
يبدو ذهاب المشهور إلى تقديم التخصيص على المجاز مطلقا؛ لكثرة وشيوع التخصيص وقلّة الحمل على المجاز، مضافا إلى أنّ ظهور الكلام في التخصيص أشدّ ظهورا منه في المجاز.
لكن قد يقدّم المجاز لقرائن تكتنف بالكلام تقتضي هذا التقديم<ref>. الفصول الغروية: 40، أنوار الأصول 3: 462.</ref>.
إلاّ أنّه نقل عن البعض التوقّف في بعض الصور، ونسب إلى بعض آخر<ref>. تقريرات المجدد الشيرازي 1: 198 ـ 199.</ref> التوقّف مطلقا، منهم: الفاضل الهندي، وذلك بناءً على رأيه في التوقّف في مطلق حالات التعارض في أحوال الألفاظ إلاّ عند وجود قرينة<ref>. الوافية: 61.</ref>، وكذا صاحب (المعالم)<ref>. معالم الدين ابن الشهيد الثاني: 139.</ref>.
وذكر المجدّد الشيرازي عدّة صور للحالة:
منها: الدروان بين التخصيص الابتدائي وبين المجاز في لفظ واحد.
منها: الدروان بين التخصيص الابتدائي وبين المجاز في لفظين لكن في خطاب واحد.
منها: الدروان بين التخصيص الابتدائي وبين المجاز في لفظين وفي خطابين.
ويضرب هذه الحالات في حالة كون التخصيص ثانويا، لتتضاعف الحالات.
ويبدو منه ترجيحه للتخصيص على المجاز في مجمل هذه الصور<ref>. تقريرات المجدد الشيرازي 1: 200 ـ 202.</ref>.
وذكر محمّد تقي الرازي صورا اُخرى للحالة مع حكمها من وجهة نظره:
منها: أن يكون المجاز مشهورا والتخصيص بعيدا مرجوحا، ولا شبهة في ترجيح المجاز فيها.
منها: أن يكون التخصيص نادرا ـ كما لو اشتمل على إخراج معظم أفراد العام ـ والظاهر هنا ترجيح المجاز؛ لبعد التخصيص، بل امتناعه بناءً على رأي بعض.
منها: أن يكون في المجاز مزية باعثة على رجحانه من غير أن يكون في التخصيص ما يوجب وهنه، فإن كان رجحان المجاز من جهة شهرته، بحيث بلغت شهرته مستوى ترجّحه على الحقيقة فلا شبهة في ترجيح المجاز وإلاّ ففي ترجيحه على التخصيص إشكال.
منها: أن يكون المجاز نادرا والتخصيص اللازم كذلك، فقد يُرجّح التخصيص لغلبة نوعه، لكن الأظهر الرجوع إلى ما هو الظاهر في المقام بلحاظ ما لدينا من قرائن، ومع التكافؤ يتوقّف في المقام<ref>. هداية المسترشدين 1: 311 ـ 312.</ref>.
=====النموذج التاسع: تعارض العموم الوضعي مع العموم الإطلاقي=====
قد يتعارض العموم الوضعي مع الإطلاق، بحيث تكون النسبة بينهما عموم وخصوص من وجه، فيدور الأمر عندئذٍ بين تقييد المطلق وتخصيص العموم، وقد يعبَّر عن هذا التعارض بدوران الأمر بين التخصيص والتقييد، وهو من قبيل قوله: أكرم عالما، ثُمّ قوله: لا تكرم الفسّاق. فيقع التعارض في العالم الفاسق؛ باعتبار أنّ العالم مطلق وشامل للعادل والفاسق، والفساق جمع محلّى باللام يدلّ على عموم الحكم لجميع أفراد الفاسق.
ورد في هذا التعارض قولان:
الأوّل: تقديم التقييد على التخصيص،
واستدلّ له بوجوه:
منها: كون التقييد أغلب من التخصيص<ref>. فرائد الأصول 4: 98، فوائد الأصول 4: 730 ـ 731، زبدة الأصول الروحاني 4: 388.</ref>.
منها: كون ظهور الإطلاق تعليقيا، أي أنّه معلَّق على بيان التقليد؛ بينما ظهور العام تنجيزي ومستند إلى الوضع، فيكون ظهور العام بيانا للتقييد وليس للمطلق ظهور في حدّ ذاته.
ردّ الوجه الأوّل: بأنّه لا غلبة للتقييد على التخصيص، وكلاهما بمستوى واحد.
وردّ الوجه الثاني: بأنّه مبني على كون الإطلاق معلّقا إلى الأبد، بينما هو معلّق على عدم البيان في مقام التخاطب.
لكنّ المحقّق النائيني يذهب إلى التعليق المطلق، أي إلى الأبد<ref>. فوائد الأصول 4: 731.</ref>، إلاّ أنّه نقل عن المحقّق الخراساني قوله: بأنّ هذا يستلزم جمع كلمات المعصومين وفرضها صادرة في مجلس واحد لكي يستحصل الإطلاق<ref>. أنوار الأصول 3: 456.</ref>.
الثاني: ملاحظة المقامات المختلفة
والخصوصيات والقرائن التي تحفُّ بالمورد ويقدّم أحدهما على الآخر وفق تلك القرائن، ولا يمكن تقديم ضابطة كلّية هنا، وإذا لم تقتضِ القرائن شيئا من التقديم يصل الدور إلى المرجّحات الاُخرى<ref>. المحكم في أصول الفقه 6: 89، أنوار الأصول 3: 456.</ref>.
=====النموذج العاشر: دوران الأمر بين التصرّف في منطوق أحد الخبرين ومفهوم الآخر=====
وهذا الصنف من التعارض يحصل في مورد من قبيل قوله: «إذا خفي الأذان فقصّر» وقوله: «إذا خفيت الجدران فقصّر» فعلى فرض قبول مفهوم الشرط يقع تعارض بين مفهوم كلٍّ منهما ومنطوق الآخر.
لقد ذكرت عدّة طرق لحلّ هذا التعارض:
منها: تقييد مفهوم كلٍّ منهما بمنطوق الآخر، ولازمه كفاية أحد الأمرين في حصول حدّ الترخيص.
منها: تقييد إطلاق منطوق كلٍّ منهما بمنطوق الآخر، ولازمه اعتبار خفاء الأذان والجدران معا في وجوب التقصير.
والأمر يعود إلى البحث في أنَّ أيّا أقوى ظهورا، المنطوق أم المفهوم؟ فإذا قلنا بكون المنطوق أقوى ظهورا، كما يذهب إلى ذلك الكثير، بل يطلقها إطلاق المسلّمات التي يستدلّ بها<ref>. المحصول الرازي 2: 464، نهاية الوصول (الحلّي) 5: 316، نهاية الأحكام (الحلّي) 2: 512، معالم الدين (ابن الشهيد الثاني): 140، الحدائق الناضرة 3: 246.</ref>، تعيّن تقييد مفهوم كلٍّ منهما بمنطوق الآخر، وإن قلنا بكون المفهوم أقوى ظهورا تعيّن تقييد إطلاق منطوق كلٍّ منهما بمفهوم الآخر، وإلاّ فلا ترجيح لأحدهما على الآخر<ref>. أنوار الأصول 3: 461 ـ 462.</ref>.
واستدلّ على أقوائية كلٍّ منهما باعتبارات خاصّة، من قبيل: كون دلالة المنطوق أقوى؛ لأنّ دلالة اللفظ عليه أصلية بينما دلالة اللفظ على المفهوم تبعية.
كما استدلّ على أقوائية دلالة المفهوم، باعتبار أنّ دلالة اللفظ على المفهوم عقلية، بينما دلالته على المنطوق لفظية، ولا يمكن رفع اليد عن الدلالة العقلية<ref>. زبدة الأصول الروحاني 2: 357 ـ 362.</ref>.
قد يقال: بأنّ المنطوق أقوى ظهورا، باعتبار أنّ الكلام سيق لبيان المنطوق، والمفهوم أمر تبعي.
لكن رُدّ هذا بأنّه كلام بلا دليل وقد يساق الكلام لبيان المفهوم، كما لو قيل: سافر إن كان الطريق آمنا. فالمراد بيان عدم السفر عند انعدام الأمان.
ويرى البعض: إنّ المقامات مختلفة وينبغي البحث عن القرائن المكتنفة بالكلام لاستخلاص النتيجة، ولا يمكن ذكر ضابطة كلّية هنا<ref>. أنوار الأصول 3: 461 ـ 462.</ref>.


=المصادر=
=المصادر=
[[تصنيف: اصطلاحات الأصول]]
[[تصنيف: اصطلاحات الأصول]]

مراجعة ١٤:٥٠، ٢٢ يونيو ٢٠٢١

التعارض: اصطلاح أصولي بمعني تنافي الدليلين في مقام الجعل والتشريع بخلاف التزاحم فإنّه التنافي فيه في مقام الامتثال؛ أو هو تنافي الدليلين بحسب الدلالة ومقام الإثبات على وجه التناقض أو التضاد حقيقة أو عرضا. ولا يخفی أنّ التعارض لا يتحقّق إلاّ بعد اتّحاد موضوع الدليلين وإلاّ لم يمتنع اجتماعهما، كما أنّه لا تعارض بين الأصول العملية و الأدلّة الاجتهادية؛ لأنّ موضوع كلٍّ منهما شيء غير موضوع الآخر، فموضوع الأصول الشيء بوصف أنّه مجهول الحكم، بينما موضوع الدليل الاجتهادي نفس الشيء من دون ملاحظة ثبوت حكم مسبق له، فضلاً عن الجهل بحكمه.

تعريف التعارض لغةً

... وعرضتُ الشيء عرضا، من باب ضرب فأعرض هو بالألف، أي أظهرته وأبرزتُه فظهر هو وبرز... ، وعرض له أمر إذا ظهر[١]... عارضتُ الشيء بالشيء: قابلته به[٢]. عرض له أمر كذا يعرض، أي ظهر، وعرضتُ عليه أمر كذا، وعرضتُ له الشيء، أي أظهرته له وأبرزته إليه[٣].

تعريف التعارض اصطلاحاً

وردت عدّة تعريفات للتعارض عن الأصوليين: منها: اقتضاء كلٍّ من دليلين عدم مقتضى الآخر[٤]. منها: تقابل الدليلين على سبيل الممانعة[٥]. منها: تنافي الدليلين وتمانعهما؛ باعتبار مدلولهما[٦]. وهو منسوب إلى مشهور أصوليي الشيعة[٧]. وفي شرح هذا التعريف يقال: لا يتحقّق التعارض إلاّ بعد اتّحاد موضوع الدليلين وإلاّ لم يمتنع اجتماعهما، كما أنّه لا تعارض بين الأصول والأدلّة الاجتهادية؛ لأنّ موضوع كلٍّ منهما شيء غير موضوع الآخر، فموضوع الأصول الشيء بوصف أنّه مجهول الحكم، بينما موضوع الدليل الاجتهادي نفس الشيء من دون ملاحظة ثبوت حكم مسبق له، فضلاً عن الجهل بحكمه[٨]. وأضاف البعض إلى التعريف (في عالم الجعل والتشريع) ليخرج تعارض البينتين في الموضوعات، فإنّ التنافي بينهما ليس في عالم الجعل والتشريع، بل الخارج إلاّ أن يراد من البحث ما يشمل هكذا تعارض فعندئذٍ يوجب إضافة «التكوين» لتصحيح التعريف[٩]. وأضاف بعض آخر عبارة: «على وجه التناقض أو التضادّ»[١٠]. منها: هو تنافي الدليلين أو الأدلّة بحسب الدلالة ومقام الإثبات على وجه التناقض أو التضادّ حقيقة أو عرضا[١١]. وهو للمحقّق الخراساني، حيث عدل عن تخصيص التعارض بين المداليل إلى الدلالة للإشارة إلى أنّه إذا كان بين الدليلين المتنافيين حكومة أو ورود أو توفيق عرفي أو تخصيص أو تقييد فالدليلان خارجان عن التعارض موضوعا؛ لعدم تنافيهما بحسب الدلالة ومقام الإثبات، بينما يكونان داخلان في التعريف إذا كان المراد من التعارض في المدلول لا الدلالة[١٢]. وبرّر الشيخ المظفر هذا العدول بأنَّ المدلولين يوصفان بأنّهما متنافيان لا متعارضان، وإنّما التعارض وصف للدليلين بما هما دليلان على أمرين متنافيين لا يجتمعان[١٣]. منها: تنافي الدليلين أو الأدلّة، بحيث لا يمكن الجمع بينهما[١٤]. وأراد صاحب هذا التعريف الجمع بين من قال بأنّ التعارض بين الأدلّة بلحاظ مداليلها والذي قال بأنّه بين الأدلّة بلحاظ الدلالات. منها: هو التنافي بين المدلولين ذاتا بلحاظ مرحلة فعلية المجعول. وهو للشهيد الصدر، وأراد من التقييد بالمدلولين دون الدليلين هو كون الدليل متكفّلاً للجعل لا لفعلية المجعول، والتنافي في هذه المرحلة يعني عدم اجتماع المدلولين في عالم الفعلية معا ولو باعتبار التنافي بين موضوعيهما. وقيّد التنافي بالذاتي لإخراج التنافي المصطنع بينهما الناشئ من تقييد موضوع خطاب بعدم خطاب آخر، دون أن يكون ذلك على أساس التنافي الذاتي بين حكميهما مسبقا، كما أنّ تعريفه ـ خلافا لتعريف أكثر متأخّري الأصوليين ـ عام وشامل لحالة التعارض غير المستقر (أي القابل للجمع العرفي) كذلك، بحيث يشمل الورود الذي أخرجه الأصوليون عن موضوع بحث التعارض[١٥]. منها: هو أن يقتضي أحد الدليلين حكما في واقعة خلاف ما يقتضيه الدليل الآخر فيها[١٦]. وعلى أيّ حال، فإنّ استخدام الأصوليين لمفردة التعارض يبدو منه إرادة معنيين، أحدهما: شامل لجميع أنواع التعارض، مستقرّا وغير مستقرّ، والآخر خاصّ بما إذا كان مستقرّا. فالقدماء والمتقدّمون من أصوليي الشيعة[١٧] وكذا مجمل أصوليي أهل السنّة[١٨] استخدموا هذا الاصطلاح بمعناه العام، وقد يكون ذلك باعتبار عدم بحث الجمع العرفي بنحو تخصّصي وعدم وضع اصطلاحات خاصّة بها، بينما حدّد متأخّرو أصوليي الشيعة هذا الاصطلاح بالتعارض المستقرّ غير الشامل لموارد الجمع العرفي[١٩]. وبرغم النقاش الوارد في دخول وعدم دخول موارد الجمع العرفي في التعارض المصطلح، فإنّ جلّ المتأخّرين أدرجوا بحوثه تحت موضوع التعارض، أو تحت عنوان (التعادل والتراجيح[٢٠]) أمّا الغزالي فأدرجه تحت عنوان (ترتيب الأدلّة)[٢١].

إمكانية حصول التعارض

ذكر البعض ثلاثة آراء في إمكانية حصول التعارض في أدلّة الأحكام الشرعية: الأوّل: لا يوجد تعارض بين الأدلّة الشرعيه أو العقلية، القطعية أو الظنية في الواقع ونفس الأمر، وما يبدو من وجود تعارض فهو في نظر المجتهد لا أكثر. نسب هذا إلى جمهور الأصوليين من الشيعة والسنّة. استدلّ على هذا الرأي بوجوه عقلية من قبيل لزوم التناقض ونسبة النقص والعجز عن إنزال الشارع ما لا تعارض فيه، وكذا أدلّة نقلية مثل: «أفَلا يتدبّرون القرآن»[٢٢]. الثاني: إمكانية التعارض مطلقا، سواء كانت الأدلّة عقلية أو نقلية، قطعية أو ظنّية، وهو مذهب جمهور المصوّبة وبعض فقهاء الشافعية وغيرهم. واستدلّوا عليه بوجوه عقليه ونقلية. منها: عدم وجود وجه نقلي أو عقلي يدلّ على منع التعارض. منها: إنّ الاجتهاد الذي جوّزه الرسول يقتضي بطبيعته الاختلاف في الاُمور الاجتهادية. منها: وجود آيات متشابهات من قبيل: «يدُ اللهِ فَوقَ أيديهم»[٢٣] تؤدّي إلى الاختلاف في الفهم. الثالث: إمكانية التعارض في الأمارات وعدم إمكانيته في الأدلّة القطعيه. نسبه الأسنوي إلى الجمهور[٢٤]. وطريقة استدلال أصحاب هذا الرأي هو حملهم الأدلّة التي أوردها المانعون عن التعارض على الأدلّة القطعية، وحملهم الأدلّة التي أوردها المجوّزون للتعارض على الأمارات والأدلّة الظنّية[٢٥]. شكّك البعض في نسبة القول الأوّل إلى المشهور؛ وذلك لأسباب من قبيل: وجود إجماع منقول يقابل هذا القول نقله أبو بكر الباقلاني والكيا الهرسي وابن السمعاني، وأسباب اُخرى[٢٦]. كما حملت أقوال العلماء القائلين بإمكانية التعارض على محامل اُخرى من قبيل: كون التعارض ظاهريا، أي في نظر المجتهد فقط وليس في الواقع؛ وذلك لأنّ التعارض منفيٌّ حتّى في القرآن، كقوله تعالى: «أفلا يَتَدَبَّروُن القرآنَ ولو كان من عندِ غيرِ الله لَوَجَدُوا فيه اختلافاً كثيراً»[٢٧]. باعتبار أنّ مفهوم الآية كون القرآن من عند اللّه فلا اختلاف فيه إذن[٢٨].

أسباب حصول التعارض

همّ البعض بذكر أسباب حصول ظاهرة التعارض بين الأدلّة الشرعية، فورد عنهم ما يلي من أسباب: 1 ـ مستوى إدراك المجتهد لمضامين ومداليل الأدلّة الشرعية؛ باعتبار استحالة صدور التناقض عن الشريعة وصاحبها. وهذا الأمر يشكّل مبرّرا لكمية كبيرة من التعارضات الظاهرة في الشريعة، وقد أسماه الشهيد الصدر بالتعارض الذاتي، في قبال التعارض الموضوعي الثابت في واقع الأمر[٢٩]، وأسماه بعض آخر بالتعارض الظاهري أو فيما يظهر للمجتهد[٣٠]. وسعى بعض لتحليل هذه الظاهرة فأرجعها الشاطبي إلى عدم عصمة المجتهد[٣١]، وأرجعها آخر إلى أمور، أحدها: القصور في العلم، وثانيها: القصور في الفهم، وثالثها: القصور في التدبُّر[٣٢]. 2 ـ النسخ، فإنّ النسخ وقع في صدر الاسلام، وأثبته أكثر العلماء، سواء في القرآن أو في السنّة، فالنصّ اللاحق قد يناقض السابق، وذلك لكون اللاحق ناسخا للسابق. هذا إن أخذنا النسخ بمعنى رفع الحكم بعد تشريعه، أمّا إن أخذناه بمعنى التخصيص، فهو داخل في باب التعارض غير المستقرّ. 3 ـ ضياع القرائن، فإنّ هناك الكثير من القرائن التي تحفّ بالنصّ الشرعي أو سياقه الذي ورد فيه، حذفت لأسباب من قبيل: تقطيع النصّ أو الغفلة عند نقله. 4 ـ تصرّف الرواة والنقل بالمعنى، وهذا ما يصدر عن الرواة أحيانا، فلم يحافظوا على النصّ كما سمعوه أو وصل إليهم، بل ينقلونه بالمعنى أو يوردون توضيحه أو يزيدون عليه إيضاحا وتفسيرا، وبذلك تردنا نصوص متناقضة برغم كونها ليست كذلك في الحقيقة. 5 ـ التدرُّج في البيان، فإنّه درج عن أهل البيت تدرُّجهم في بيان التشريعات وعدم الإقدام على سرد التشريع بتفاصيله في مجلس واحد، فنجدهم أحيانا يؤجّلون التفاصيل إلى مجالس اُخرى؛ وذلك قد يكون بسبب عدم استيعاب المتشرعة للتفاصيل دفعة واحدة في ظلّ الظروف السياسية والإمكانات المحدودة التي يستعصي معها التعليم والتعلُّم، وقد يكون بسبب تطبيق فكرة التدرُّج في مجال التربية والتثقيف التي كان يعملها المعصومون عليهم‏السلام، كما كان يفعل ذلك الرسول صلى‏الله‏عليه‏و‏آله. 6 ـ التقية، فإنّ أكثر أئمة أهل البيت عاشوا جلّ حياتهم ظروفا عصيبة فرضت عليهم التقية في القول والفعل، فكانت تصدر منهم ما يموّه على الجهات الضاغطة دفعا لضرر المضايقات والإيذاء. 7 ـ ملاحظة ظروف الراوي، فإنّ المعصوم قد يلاحظ حالة خاصّة للسائل يتغيّر وفقها الحكم الشرعي، لكنّ الراوي ينقل الرواية كقضية حقيقة شاملة لجميع الموارد، ما يجعل تعارضا مع روايات صدرت عن المعصوم بيَّن فيها الحكم الشرعي بنحو القضية الحقيقية دون لحاظ ظروف خاصّة للسائل. 8 ـ الدسّ والتزوير، فقد كان أشخاص ومجاميع غير قليلة تهتمُّ بالتزوير والدسّ في الروايات؛ وذلك لأهداف عديدة منها: تبرير مذاهبهم[٣٣]. وفي هذا المجال كتب علماء مجلّدات غير قليلة حدّدوا فيها الموضوع من الحديث، منها: (الموضوعات) لابن القيم الجوزية، و (اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة) للسيوطي. وقد أكّد البعض على اختلاف الرواة في النقل والنسخ في النصوص الدينية والاختلاف في القراءات القرآنية كأسباب موجبة للتعارض[٣٤].

متعلّق التعارض

يحصل التعارض بين الدليلين المعتبرين من حيث الدلالة أو السند أو جهة الصدور، فيقع بين الآيتين والخبرين القطعيين من حيث السند، والظنّيين من حيث السند أو الدلالة، والأمارتين من الأمارات المعتبرة على اختلافها، والمختلفتين من حيث السند والدلالة، والأصلين اللفظيين أو العمليين[٣٥]. وإذا كان أحدهما قطعيا من جميع الجهات والآخر ظنّيا من بعض الجهات فلا إشكال في تقديم الأوّل على الثاني، ولا معنى لتعارضهما، فإنّ شرط تحقّق التعارض كون الدليلين في قوّة واحدة[٣٦]. وينقل عن البعض منعه التعارض بين الظنّيين؛ لأنّا إذا خيّرنا بين الفعل والترك فقد سوّغنا له الترك، فيكون ذلك ترجيحا لدليل الإباحة، وهو باطل. لكن ردّ بأنّ التخيير ليس إباحة؛ لأنّه يجوز أن يقال له: إن أخذت بدليل الإباحة فقد أبحتُ لك، وإن أخذت بدليل الحظر فقد حرمتُه عليك[٣٧]. ولا يتصوّر التعارض بين قطعيين من جميع الجهات، ونقل الإجماع عليه[٣٨]، وبرّر ذلك بأنّه ينافي العلم بكذب أحدهما[٣٩]. أو أنّ تعارضهما يستلزم اجتماع النقيضين[٤٠]. أو من باب أنّه ليس بعض العلوم أقوى وأغلب من بعض[٤١]، وتبريرات اُخرى[٤٢]. لكن يجوز أن يتعارضا فيما إذا كان التعارض صوريا غير مستقرّ ناشئا عن فهم المجتهد الذي هو عرضة للخطأ، فيجمع بينهما بحمل أحدهما على كونه ناسخا مثلاً[٤٣]. ولذلك يرى البعض أنّ قصر التعارض على الأدلّة الظنية تحكُّم؛ لأنّ التعارض في الظاهر فقط وليس في الواقع، وكما يصحّ أن يطرأ على الأدلّة الظنّية يصحّ أن يطرأ على الأدلّة القطعية[٤٤]. ومن جانب آخر فإنّ الملحوظ لدى بعض الشيعة، باعتبار عدم اعتدادهم بالأدلّة الظنّية إلاّ الأخبار منها، حصروا بحث التعارض، وفي النتيجة التراجيح بالأخبار فقط[٤٥]، وهو ما صرّح به بعضهم[٤٦]. هذا مضافا إلى وجهة نظر الأخباريين منهم في الاعتماد شبه الكلّيّ على الأخبار. كما أنّ هناك موارد يمكن إخراجها من التعارض باعتبار الرأي البنائي الذي التزمته بعض المذاهب الفقهية، وقد ذكر البعض الموارد التالية كمثال على ذلك: 1 ـ خبر الواحد مع القياس عند النافين لحجّية القياس. 2 ـ الخبر المسند مع الخبر المرسل عند النافين لحجّية الخبر المرسل. 3 ـ تعارض القياس مع الاستصحاب الذي ينفيه الحنفية. 4 ـ تعارض خبر الواحد أو المشهور أو المتواتر مع المصالح المرسلة عند الجمهور، خلافا للمالكية. 5 ـ تعارض خبر الواحد مع إجماع أهل المدينة عند الجمهور، خلافا للمالكية[٤٧].

شروط التعارض

تناول البعض ذكر شروط التعارض، وباعتبار عدم التفريق في أصول أهل السنّة بين النوعين الأساسيين من التعارض (أي المستقرّ وغير المستقرّ) نرى الشروط التي ذكروها هنا شاملة لكلا النوعين، بينما من تعرّض من متأخّري الشيعة لشروط التعارض فرّق بينهما، وذكر لكلٍّ منهما شروطا خاصّة.

شروط التعارض في مصادر أهل السنّة

وردت عن الزركشي ما يأتي من شروط: 1 ـ التساوي في الثبوت، فلا تعارض بين الكتاب وخبر الواحد إلاّ من حيث الدلالة. 2 ـ التساوي في القوّة، فلا تعارض بين المتواتر والآحاد، بل يقدّم المتواتر على الآحاد، لكن نقل الخلاف في ذلك، ورأي البعض ثبوت التعارض والتساقط هنا. 3 ـ اتّفاقهما في الحكم مع اتّحاد الوقت والمحلّ والجهة، فلا امتناع بين الحلّ والحرمة والنفي والإثبات في زمانين في محلّ أو محلّين وزمانين و بجهتين، كالنهي عن البيع في وقت النداء والجواز في غيره[٤٨]. وذكر البعض الآخر الموارد التالية شروطا للتعارض: 1 ـ كون المتعارضين كليهما حجّة. 2 ـ كون التنافي بينهما على وجه التناقض. والقائلون بهذا الشرط رتّبوا عليه شروطا اُخرى، ذات صلة بالتناقض، هي: أ ـ توافر شروط التناقض لحصول التعارض بينهما. ب ـ عدم إمكان الجمع بين المتعارضين باعتبار التناقض بينهما. وهذا الشرط كسابقه موضع اختلاف الأصوليين، فانقسموا بين مثبت له وبين نافٍ له؛ باعتبار اختلافهم في المراد من التعارض الأصولي ما إذا كان التنافي الظاهري أو التناقض الحقيقي. 3 ـ التساوي بين المتعارضين من حيث القوّة والضعف. 4 ـ عدم إمكان الجمع بينهما. 5 ـ كون التعارض بينهما بنحو يمكن أن يكون أحدهما ناسخا للآخر، إذا علم تاريخه وتأخّره عن الآخر. وهذا الشرط اشترطه السرخسي لإخراج القياسين وأقوال الصحابة عن حالة التعارض، فلا يمكن للقياسين أن يتعارضا؛ لعدم إمكان نسخ أحدهما الآخر، كما لا يمكن لأقوال الصحابة أن تتعارض فيما بينها باعتبارها تمثّل آراء شخصية لا آثارا عن المعصوم. 6 ـ عدم كون المتعارضين قطعيين. وهو شرط منسوب إلى جمهور الشافعيه وجميع المانعين عن التعارض بين الأدلّة القطعية[٤٩]. ولم يتّضح فيها بدقّة الإشارة إلى نوعية التعارض ما إذا كان مستقرّا أو غير مستقرّ، ويبدو من بعضها الشمول لكليهما، من قبيل الشرط الأخير.

شروط التعارض المستقرّ

ذكر الشيخ المظفر الشروط التالية للتعارض المستقرّ: 1 ـ ألاّ يكون أحد الدليلين أو كلٌّ منهما قطعيا؛ لأنّه لو كان أحدهما قطعيا، فإنّه يعلم منه كذب الآخر، والمعلوم كذبه لا يعارض غيره. وأمّا القطع بالمتنافيين بأن كان كلاهما قطعيين، ففي نفسه أمر مستحيل لا يقع. 2 ـ ألاّ يكون الظنّ الفعلي معتبرا في حجّية كلٍّ منهما معا؛ لاستحالة حصول الظنّ الفعلي بالمتكاذبين كاستحالة القطع بهما. نعم، يجوز أن يعتبر في أحدهما المعين الظنّ الفعلي دون الآخر. 3 ـ أن يتنافى مدلولاهما ولو عرضا وفي بعض النواحي ليحصل التكاذب بينهما، سواء كان التنافي في مدلولهما المطابقي أو التضمّني أو الالتزامي. والضابط هنا هو تكاذب الدليلين على وجه يمتنع اجتماع صدق أحدهما مع صدق الآخر. 4 ـ أن يكون كلٌّ من الدليلين واجدا لشرائط الحجّية؛ باعتبار أنّه لو كان أحدهما فاقدا لشرائط الحجّية كان غير صالح لئن يكذّب منافيه، فلا تعارض بين الحجّة واللا حجّة، كما لا تعارض بين اللا حجّتين. 5 ـ ألاّ يكون الدليلان متزاحمين؛ لأنّ التنافي في المتزاحمين من باب الامتثال لا التشريع. 6 ـ ألاّ يكون أحد الدليلين حاكما على الآخر. 7 ـ ألاّ يكون أحد الدليلين واردا على الآخر[٥٠]. وقد أضاف السيد اليزدي شروط تحقّق التناقض التي ذكرها المناطقة، وهي: اتّحاد الموضوع، واتّحاد المحمول، واتّحاد الجهة، واتّحاد الزمان، واتّحاهما في القوّة والفعل، واتّحادهما في الكلية والجزئية، واتّحاد الشرط فيهما، واتّحاد الاضافة فيهما، ووحدة الحمل أوليا أو شائعا صناعيا. واعتبر شمول التعارض للتضاد من باب أنّه يؤول إلى التناقض وإلاّ فهو غير مشمول بحدّ ذاته[٥١].

شروط التعارض غير المستقرّ

ذكر الشهيد الصدر الموارد التالية كشروط للتعارض غير المستقرّ، وهي في الحقيقة شروط للجمع العرفي كذلك: 1 ـ أن يكون المتكلّم بكلا الكلامين واحدا أو بحكم الواحد، لكي يتسنّى اعتبار أحدهما قرينة على الآخر، والمراد بحكم الواحد هو مثل أئمة أهل البيت عليهم‏السلام الذين يعتبرون بمثابة جهة واحدة ممثّلة للشريعة. 2 ـ ألا يكون هناك علم إجمالي بعدم صدور أحد الخطابين من الشارع، فإنّ ذلك يعني كذب أحد الخطابين وعدم صدوره من الشارع، والتعارض هنا يكون بين نفس الخطابين وإن لم يكن هناك تنافٍ بين مدلوليهما. 3 ـ أن يبقى مجال للتعبُّد بمقدار من دلالة ذي القرينة، وأمّا إذا اقتضى الجمع العرفي إلغاء التعبُّد بدلالته رأسا فلا مجال حينئذٍ لإعمال الجمع العرفي، كما لو فرض اقتضاء حمل أحد المتعارضين على كونه إخبارا عن واقعة خارجية لا إنشاء مولويا، عندئذٍ لا يبقى مجال للتعبُّد بدلالة ذي القرينة؛ لأنّها لا تنتهي إلى أثر عملي. والوجه في هذا الشرط هو أنّه مع عدم إمكان التعبُّد بدلالة ذي القرينة يكون التعارض بحسب الحقيقة بين القرينة ودليل التعبُّد بسند ذي القرينة. 4 ـ أن يكون التعارض غير المستقرّ بين الدليلين ذاتيا قائما على أساس التناقض أو التضاد، وأمّا إذا كان التعارض عرضيا وقائما على أساس العلم الاجمالي بمخالفة مدلول أحدهما للواقع، فسوف يقدّم أقوى الدليلين عندئذٍ، من قبيل: ورود دليل يأمر ظاهرا بصلاة الظهر يوم الجمعة، وورد آخر يصرّح بوجوب صلاة الجمعة، وعلم من الخارج بعدم جعل الفريضتين على المكلّف في ذلك الوقت فلا يمكن جعل الدليل الصريح في وجوب الجمعة قرينة لحمل الأمر بالظهر على الاستحباب. وقد ذكر أكثر من تبرير على هذا، منها: أنّه لا يقدَّم أقوى الدليلين على أضعفهما مع العلم بكذب مفاد أحدهما[٥٢].

موارد التعارض غير المستقرّ

موارد التعارض غير المستقرّ التي أخرجها متأخّرو الأصوليين عن موارد التعارض المصطلح عبارة عمّا يلي: 1 ـ التزاحم، وخروجه من باب أنّ التنافي بين الدليلين في هذه الحالة ليس من حيث المدلول، بل من حيث الامتثال وفي مقام الامتثال، بأن توجَّه تكليفان للمكلّف، امتثال أحدهما متوقّف على مخالفة الآخر؛ لعجزه عن امتثال كلّيهما. 2 ـ الحكومة، وخروجها عن التعارض، باعتبار أنّ الدليل الحاكم شارح للمحكوم أو رافعا لموضوعه، ولا يحصل تنافٍ بين دليلين أحدهما شارح للآخر أو نافٍ لموضوع الآخر. 3 ـ الورود، وخروجه عن التعارض، باعتبار أنّ الدليل الوارد يرفع موضوع الدليل المورود تكوينا بواسطة التعبُّد الشرعي، فلا منافاة بين الدليلين. 4 ـ التخصُّص، وخروجه عن التعارض من باب أنّ موضوع أحد الدليلين قد خرج عن موضوع الدليل الآخر بالوجدان، فانخرم شرط الاتّحاد في الموضوع. 5 ـ تخصيص، وخروجه من باب أنّ حجيّة كلّ دليل تتوقّف على اُمور ثلاثة، هي: الصدور عن الشرع وكون ظاهره مرادا للمتكلّم، وأنّ إرادته للظاهر جدية، والدليل المخصِّص بمثابة القرينة للكشف عن المراد الجدي للشارع. وهناك تبريرات اُخرى ذكرت للموارد التي خرّجت عن التعارض المستقرّ[٥٣]. 6 ـ تعارض أدلّة العناوين الأوّلية مع أدلّة العناوين الثانوية، فهنا تقدّم أدلّة العناوين الثانوية على الأوّلية، ولا تلاحظ النسبة بينهما أصلاً؛ لأنّ هذا متفرّع على تعريف التعارض، فإنّه لا تنافي ولا تضادّ هنا لاختلاف العناوين بين الدليلين. لكن وقع الكلام في وجه تقديم أحدهما على الآخر، فبعض ذهب إلى أنّه من باب الجمع العرفي، كما هو رأي المحقّق الخراساني[٥٤]، وبعض آخر ذهب إلى أنّه من باب الحكومة، باعتبار كون الثانوية ناظرة ومفسرة للأولية وعارضة وطارئة عليها. وذهب آخر أيضا إلى التفصيل بين ما إذا كان العنوان الثانوي مثل الضرر والحرج فبالحكومة، وبين ما إذا كان مثل الشرط والنذر فبالجمع العرفي ، وهو ما ينسب إلى بعض محشي ( كفاية الأصول ) . لكن أشكل على الرأي القائل بالتفصيل بأنّ الشرط ليس من قبيل العناوين الثانوية أصلاً، والعناوين الثانوية وإن كانت كثيرة لكن الشرط ليس منها[٥٥].

أقسام التعارض

ذكرت أقسام غير قليلة للتعارض، تناولت مجملها الحالات المتصوّرة للدليلين (أو الأدلّة) عندما يكونان متنافيان، فقد يكونان من الكتاب أو من السنّة أو أحدهما من الكتاب والآخر من السنّة أو بين الكتاب والاجماع أو القياس، وقد يكون التنافي بين القياسين[٥٦]، كما أنّه قد يكون لكلّ قسم أقسام عديدة، فإنّ التعارض في الأحاديث قد يسعى في حلّه من خلال النظر إلى دلالة كلٍّ منهما وقد يسعى لحلّه من خلال النظر إلى سند كلٍّ منهما، فيبحث عن المرجّحات في كلٍّ من الأمرين. نعرض لهذه الأقسام في باب الحكم، ونقتصر هنا على ذكر التقسيمات المنصبّة على التعارض نفسه، والتي اكتسبت اصطلاحا يتداوله الأصوليون.

القسم الأول: التعارض المستقر وغير المستقرّ

برغم أنّ الكثير من الأصوليين لم يفرّق بين التعارض المستقرّ وغير المستقرّ[٥٧]، لكنّ كثيرا من متأخّري أصوليي الشيعة أكّدوا هذا التقسيم، بل هو من إبداعاتهم، ووردت عنهم أحكام خاصّة لكلٍّ منهما. التعارض غير المستقرّ: هو الذي تطبّق عليه قواعد الجمع العرفي، ويزول بمجرّد تطبيقها بتعديل إحدى الدلالتين على وفق الدلالة الاُخرى. وهي من قبيل: التخصيص أو التقييد أو الحكومة[٥٨]. ويسمّى بدويّا؛ باعتبار أنّه يبدو تعارضا في البدء ولا تعارض في الواقع. وعرّف التعارض المستقرّ بعبارات من قبيل: هو التنافي بين الدليلين بنحو يسري إلى دليل الحجيّة، فيقع التنافي في اقتضاءات دليل الحجّية العام لشمول الدليلين معا[٥٩]. أو التعارض الذي يكون بلحاظ دليل الحجّية، لتنافي مفادي الدليلين مع تمامية عموم دليل التعبُّد في كلٍّ منهما[٦٠]. ويوصف بأنّه لا يمكن معه الجمع العرفي[٦١] أو لا يمكن فيه العلاج بالجمع العرفي[٦٢]. أو الذي لا يمكن علاجه ويسري التعارض فيه إلى دليل الحجّية، أي مع حصوله يستحيل ثبوت حجّية كلا الدليلين المتعارضين؛ لأنّ إثباتها يؤدّي إلى إثبات كلٍّ منهما ونفيه في وقت واحد، فالتنافي حاصل في المدلول[٦٣]. ويسمّى التعارض الحقيقي أيضا[٦٤].

القسم الثاني: التعارض الإثباتي والثبوتي

التعارض الإثباتي: هو التعارض غير المستقرّ المتحقّق في مرحلة الإثبات والدلالة دون السراية إلى مرحلة الثبوت، كالتعارض بين العام والخاصّ، والمطلق والمقيّد. التعارض الثبوتي: هو التعارض المستقرّ بين مدلولي الدليلين بالذات وبين الدالّين بالعرض، وهو الذي يبحث عن مرجّحات طرفيه من حيث السند أو المضمون أو الجهة، ويحكم فيه بالتساقط أو التخيير أو ما شابه[٦٥].

القسم الثالث: التعارض المستوعب وغير المستوعب

التعارض المستوعب: هو التعارض المستقرّ الذي يستوعب تمام مدلول الدليل، كما في الدليلين المتعارضين الواردين على موضوع واحد مع كون النسبة بينهما التباين. والتعارض غير المستوعب: هو التعارض المستقرّ الذي يشمل جزء من المدلول، كما في العامين من وجه[٦٦].

القسم الرابع: التعارض الذاتي والعرضي

التعارض الذاتي: هو التعارض الحاصل من خلال مؤدّى الدليلين ذاتيهما، بأن يوجب أحدهما الدعاء عند رؤية الهلال وينفي الآخر وجوبه. التعارض العرضي: هو التعارض الحاصل لأمر عارض خارج عن مؤدّى الدليلين، من قبيل: التعارض بين ما دلّ على وجوب صلاة ظهر يوم الجمعة ووجوب صلاة الجمعة، فإنّ التعارض بين هذين الدليلين يحصل بملاحظة دليل ثالث يثبت عدم وجوب فرضين على المكلّف في ذلك الوقت، ومن خلال الدليل الثالث يثبت لدينا كذب أحد الدليلين[٦٧].

القسم الخامس: التعارض السندي والدلالي

التعارض السندي: هو التعارض الذي نعود فيه إلى السند لأجل معالجته، من قبيل: التعارض المستوعب الذي نعود فيه إلى السند ونلجأ إلى إعمال المرجّحات السندية من أعلمية وأورعية الراوي وما شابه ذلك. والتعارض الدلالي: هو التعارض الذي يعود إلى مضمون الدليلين المتعارضين، وهو عنوان شامل لكلٍّ من التعارض المستقرّ وغير المستقرّ. ولأجل معالجته نعود إلى المعالجات الدلالية، كحمل أحدهما على خلاف الظاهر أو على القدر المتيقّن أو ما شابه ذلك[٦٨].

أحکام التعارض

المنهج المألوف والدارج لدى جمهور قدماء ومتقدّمي أصوليي أهل السنّة منهم دراسة التعارض عبر المراحل التالية:

المراحل الأربعة لرفع التعارض

المرحلة الاُولى: الجمع بين المتعارضين. المرحلة الثانية: ترجيح ما له فضل ومزية على الفاقد لهما. المرحلة الثالثة: الحكم بنسخ أحد المتعارضين لمقابله عند عدم إمكان الجمع بينهما. المرحلة الرابعة: سقوط المتعارضين، وذلك عند تكافؤ الدليلين المتعارضين. استدلّ الجمهور على رأيه باُمور: منها: كون الشارع قد طرح الأدلّة للاستفادة منها كلّها لا لتعطيل بعضها. منها: كون الجمع ينزّه الأدلّة عن النقص ويزول به الاختلاف. وورد عن بعض الحنفية تقديم الترجيح على الجمع وذلك بالنحو التالي: 1 ـ إن علم بتاريخ المتعارضين نسخ اللاحق السابق. 2 ـ إن لم يعلم بتاريخ المتعارضين رجّح أحدهما بأحد المرجّحات المذكورة في محلّها. 3 ـ إن لم يكن مرجّح تساقط المتعارضان وأخذ بالأدنى منهما وفق الترتيب التالى: أ ـ إذا تعارض آيتان يتركان ويؤخذ بالسنّة. ب ـ إذا تعارض سنّتان يتركان ويؤخذ بالقياس. ج ـ إذا تعارض قياسان يكون المجتهد مخيّرا بينهما. د ـ إذا تعارض الآيتان أو السنتان ولم يجد المجتهد الأدون منهما يحكم بالأصل في المسألة قبل ورود الدليلين. واستدلّوا على رأيهم باُمور: منها: اتّفاق العلماء على تقديم الراجح على المرجوح. منها: كون سيرة الصحابه قائمة على ترجيح أحد الدليلين عند التعارض. ومنها: دعوى إجماع العلماء على تقديم الترجيح على الجمع. كما نسب للمحدّثين الترتيب التالي في معالجة التعارض: 1 ـ الجمع بينهما إن أمكن. 2 ـ إن لم يمكن وعلم بتاريخهما يقدَّم المتأخّر منهما كناسخ. 3 ـ إن لم يعلم بالتاريخ يرجّح أحدهما وفق المرجّحات الثابتة. 4 ـ إن لم يكن هناك مرجّح يحكم بالتوقّف أو التساقط[٦٩]. وقريب من منهج جمهور أصوليي أهل السنّة منهج بعض قدماء ومتقدّمي أصوليي الشيعة[٧٠]، والاختلاف بينهما قد يكون ناشئا عمدة عن عدم اعتدادهم بالأدلّة الظنّية إلاّ الأخبار منها، كما يصرّح بعضهم بذلك[٧١]، فحصروا بحوثهم في التعارض بينها فحسب، أمّا مثل تعارض آيتين فالحكم هو الجمع بالتخصيص والتقييد وما شابه، كما هو واضح.

انحصار البحث لدی متأخّري الشيعة في الحالتين

أمّا منهج متأخّري الشيعة فغالبا يبحث التعارض في الحالتين التاليتين:

الحالة الاُولى: التعارض غير المستقرّ

والحكم الكلّي لحالة التعارض غير المستقرّ هو الجمع العرفي، وله موارد عديدة بحسب نوعية التعارض الحاصل بين الدليلين.

الجمع بين الدليلين

تطرح معالجة الجمع عند حصول التعارض غير المستقرّ، حيث لا يوجد تنافٍ في اقتضاءات دليل الحجّية، إمّا لعدم المحذور في فعلية اقتضاءات الحجّية للشمول لكلا الدليلين وإمّا لعدم وجود اقتضاء في الدليل لتخصيصه بأحدهما برغم الشمول لكلا الدليلين[٧٢]. لم يرد تعريف محدّد للجمع بين الدليلين، لكن من الواضح ومن خلال تتبّع كلمات الأصوليين، نجد أنّ المراد منه هو التوفيق بين الدليلين، أي حمل الدليلين أو أحدهما على معنى غير ما يبدو في الوهلة الاُولى، من قبيل: حمل العام على الخاصّ والمطلق على المقيّد، والأمر على الاستحباب، والنهي على الكراهة، أي تأويله أو تأويلهما بما يجعل الوفاق بين مضمونيهما ويرفع التنافي بينهما. ويقابل اصطلاح الجمع اصطلاح الطرح الذي يعني إلغاء أو إسقاط الدليل عن دلالته واعتباره كالعدم. رغم ذلك نجد بعض العبارات قد تصلح تعريفا لمصطلح الجمع، من قبيل قولهم: كون الجمع هو التصرّف أو تأويل أحد الدليل أو كليهما على وجه يرتفع التنافي بينهما، أو الأخذ ببعض المفاد من كلٍّ منهما أو من أحدهما[٧٣]. كما أنّ للجمع أنحاء مختلفة، وفقا للقرائن التي قد تفرض إقرار الحكومة أو الورود أو التخصيص أو التقييد أو الأظهرية أو ما شابه ذلك.

شرائط الجمع

شرائط الجمع بين الدليلين هي ذاتها التي وردت في التعارض غير المستقرّ، فإنّ ما ذكر من شرط أو شروط للتعارض غير المستقرّ هي شروط للجمع كذلك، لأنّ التعارض غير المستقرّ لا يتأتّى مع إمكان حصول الجمع. برغم ذلك ورد عن البعض سردهم لمجموعة من الاُمور عنونوها شروطا للجمع، من قبيل: 1 ـ أن يكون كلا المتعارضين حجّة. 2 ـ ألاّ يؤدّي الجمع إلى بطلان نصّ من نصوص الشريعة أو بطلان جزء منه. 3 ـ مساواة الدليلين المتعارضين، فلا تعارض بين المختلفين، من حيث الضعف والقوّة. 4 ـ ألاّ تكون النسبة بين المتعارضين تناقض أو تضادّ، وإلاّ يحمل أحدهما على اُمور من قبيل كونه ناسخا للآخر. 5 ـ ألاّ يكون أحد المتعارضين ممّا عمل الاُمّة أو جمهورهم بخلافه. 6 ـ ألاّ يكون الجمع بالتأويل البعيد. 7 ـ ألاّ يعلم بتأخُّر أحدهما عن الآخر. 8 ـ أن يكون المجموع به من المتعارضين من المعاني المحتملة للفظ. 9 ـ أن يصدر الجمع ممّن هو أهل للتأويل والجمع. 10 ـ ألاّ يخرج الجامع أو المجتهد بجمعه عن حكمة التشريع وسرّه. 11 ـ أن يقوم دليل على صحّة الجمع والتأويل[٧٤]. وكما هو واضح فإنّ جلّها صالحة لئن تكون شروطا للتعارض غير المستقرّ، برغم أنّ بعضها تناولت جزئيات الجمع وكيفياته، من قبيل ألاّ يكون الجمع بالتأويل البعيد، أو تناولت شرط مَن يقوم بالجمع، وهو أن يكون أهلاً لهذا العمل.

أقسام الجمع

وردت في كلمات الأصوليين الأقسام التالية للجمع:

1 ـ الجمع العرفي

وهو الجمع الذي تتمّ من خلاله معالجة التعارض عبر التصرّف في دلالة أحد الدليلين أو كلاهما، بأن يخصَّص أحدهما أو يقيَّد، وبذلك يشمل كلّ ملائمة وتوافق يمكن إيجاده بين دليلين، على أن يكون عنصر الإطلاقات والاستخدامات العرفية حاصلاً فيه، ويدخل ضمن نطاق قواعد المحاورات العرفية، فيشمل مثل الورود والحكومة[٧٥]. وقد سمّاه البعض أو وصفه بالمقبول[٧٦] والدلالي[٧٧] والدلالتي[٧٨] والعقلائي[٧٩]. ويذكر البعض: إنّ المعيار في الجمع العرفي هو أقوائية أحد الظهورين، وباعتبار اختلاف القرائن الدالّة على هذا فتختلف الأقوائية حسب اختلاف رؤية الفقيه[٨٠]. ولذلك ورد عن البعض قوله: بأنّ أصول الفقه لا يبحث عن القرائن الخاصّة الجزئية للجمع الدلالي، فهي لا تدخل تحت ضابطة كلية، بل يبحث عن القرائن الكلّية التي تشكّل قاعدة عامّة وقانونا كليا للجمع الدلالي[٨١].

2 ـ الجمع التبرّعي

وهو الجمع الذي يخرج عن نطاق قواعد المحاورات العرفية، أو يعود إلى تأويل الكلام بنحو لا يساعد عليه العرف من أهل المحاورة، ولا شاهد عليه ولا دليل يثبته، من قبيل: حمل أحد الدليلين على مورد نادر جدّا، ولذلك يعتبره الأصوليون غير حجّة ولا عبرة به[٨٢]، ويُدعى الجمع العقلي كذلك[٨٣].

3 ـ الجمع الموضوعي والجمع الحكمي

وهو تقسيم ناظر إلى محلّ الجمع بين الدليلين، فإذا كان التصرّف عند الجمع في الموضوع سمّي موضوعيا، وذلك من قبيل: القول بكون موضوع أحد الدليلين أخصّ من الآخر، وإذا كان التصرّف في حكم الدليل سمّي حكميا، وذلك من قبيل: القول بكون حكم أحدهما أخصّ من الآخر. لقد ورد هذا التقسيم عن بعض الأصوليين وذكرت له فوائد من قبيل كون الجمع الموضوعي مقدَّما على الجمع الحكمي[٨٤].

نماذج من الجمع العرفي

ويمكن ذكر الاُمور التالية كنماذج تبحث في محالها للجمع العرفي: 1 ـ تقديم الخاصّ على العام. ( تخصيص، تخصُّص) 2 ـ تقديم الدليل الوارد على المورود. ( ورود) 3 ـ تقديم الدليل الحاكم على المحكوم. ( حكومة) 4 ـ تقديم الدليل المقيّد على المطلق. ( تقييد) 5 ـ تقديم الناسخ على المنسوخ أو تقديم النصّ الأحدث على المتقدّم. ( نسخ) 6 ـ تقديم الأهمّ على المهمّ عند التزاحم. ( تزاحم) 7 ـ تقديم النصّ على الظاهر. ( ظهور، نصّ) 8 ـ تقديم الأظهر على الظاهر. ( ظهور) 9 ـ تقديم القرينة على ذي القرينة. ( قرينة) 10 ـ تقديم الأصل السببي على الأصل المسبَّبي. ( الأصل السببي والمسبّبي) 11 ـ تقديم الدليل القطعي على الظنّي. ( حجّية، ظنّ، قطع) 12 ـ التصرّف في مضمون أحد الدليلين وحمله على ما يجعله غير متنافٍ مع الدليل الآخر، من قبيل حمله على العناوين الثانوية كالتقية.

نماذج مختلف فيها

برغم أنّ الموارد المتقدّمة لا تخلو من نقاشات وردت في محالها إلاّ أنّ هناك الكثير من الموارد التي اختلف في التقديم والتأخير فيها[٨٥]، نورد الموارد التالية التي قد تكون أهمّها أو وقعت موضع نقاش أكثر من غيرها :

النموذج الأول: تعارض الفعل والقول

مثَّلوا للتعارض بين الفعل والقول بقوله صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بعد نزول آية الحج: «من قرن الحجّ إلى العمرة فليطف لهما طوافا واحدا»[٨٦] وروي عنه إنَّه قرن فطاف لهما طوافين وسعى سعيين.[٨٧] وقد ذكرت في هذا المجال حالات عديدة وأقوال مختلفة، عدّها البعض إلى ستّين حالة.[٨٨] ( أفعال الرسول)

النموذج الثاني: تعارض الفعلين

تعارض الفعلين، بمعنى إتيانهما في زمان واحد وبنفس الظروف، أمر غير ممكن، لكنّه ممكن على فرض وجودهما في زمانين، وعندئذٍ لابدّ من معالجتهما بالنحو الذي تعالج به النصوص بعد التأكُّد من صحّة نقل الفعل وعدم الوضع والتزوير، وذلك بحمل الثاني على كونه ناسخا للأوَّل أو كونه ذا شروط خاصّة تختلف عن الآخر.[٨٩] رغم ذلك نقل خلاف وأقوال في هذا الموضوع[٩٠]. ( أفعال الرسول)

النموذج الثالث: دخول التعارض في انقلاب النسبة

انقلاب النسبة اصطلاح يطلق عند تعارض أكثر من دليلين في وقت واحد، حيث تكون نسبة خاصّة بين دليلين تنقلب عندما تتعارض مع دليل ثالث. وهناك نقاش في كيفية علاج هذه الحالة واختلاف في وجهات النظر، وردت عن متأخّري أصوليي الشيعة[٩١].

النموذج الرابع: التقديم وفق ترتيب الأدلّة

اختلفت المذاهب في تقديم الأدلّة الأساسية بعضها على الآخر، فقد يقدَّم أقوال الصحابة مثلاً على الاجماع والعقل، وقد يقدَّم الاستحسان على الاستصحاب والعقل، وهكذا باقي الأدلّة. ومن جانب آخر، فإنّ أصوليي الشيعة بتفصيلات بحوثهم المتأخّرة قدّموا الطرق والأمارات على الأصول الشرعية الإحرازية، كما قدّموا الأصول الشرعية العملية غير الإحرازية (سواء كانت تعبّدية أو غير تعبّدية) على الأصول العقلية العملية، وهو ما يتناوله الفقهاء غالبا في بحوثهم الفقهية عن بعض المسائل الجزئية. ( أصول المذهب، ترتيب الأدلّة)

النموذج الخامس: تبرير تقدّم الأمارات والطرق على الأصول الشرعية العملية

يبدو اتّفاق الأصوليين على تقديم الأمارات والطرق على الأصول العقلية من باب الورود؛ لأنّها بمثابة البيان الذي يرفع موضوع الأصول العقلية[٩٢]، لكنّهم اختلفوا في تبرير تقدُّم الأمارات والطرق على الأصول الشرعية، وتوجد مبرّرات في هذا المجال : الأوّل: كون أدلّة الطرق والأمارات واردة على أدلّة الأصول باعتبارين: أ ـ كون المراد من الشكّ والجهل في موضوع الأصول هو عدم قيام الحجّة على الحكم الشرعي، ومع قيام الطرق والأمارات يرتفع الموضوع. ب ـ المراد من الشكّ والجهل بالحكم هو ما يقابل العلم الأعم من الوجداني والتعبّدي ولو بالوظيفة الظاهرية، فيرتفع موضوع الأصول بمجيء الأمارات. لكن اعتبر هذا مخالفا للظاهر؛ لأنّ الظاهر من الجهل والشكّ في موضوع أدلّة الأصول الشرعية هو الأمر النفسي أو الصفة النفسانية القائمة في نفس الشاكّ المقابل للعلم بالواقع، لا ما ذكر في الوجهين الماضيين[٩٣]. الثاني: ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري[٩٤] والمجدّد الشيرازي[٩٥] من كونه من باب حكومة أدلّة الطرق والأمارات على أدلّة الأصول؛ لرفعها لموضوع الأصول الشرعية تعبّدا أو تنزيلاً، بسبب تقيُّد موضوع الأصول شرعا بالشك والجهل، مع أنَّ أدلة الطرق والأمارات مطلقة غير مقيّدة. وبذلك تكون أدلّة الطرق والأمارات رافعة لموضوع الأصول (وهو الجهل) تعبُّدا أو تنزيلاً وإن كان باقيا حقيقة. وردّه البعض بعدّة ردود، منها: مبنى أصحاب هذا الرأي هو تنزيل الطرق والأمارات منزلة العلم، بينما هناك رأي آخر، وهو أنّ حجّيتها تعني اعتبارها بحيث يصلح الاعتماد عليها عمليا كما يعتمد على العلم، لا تنزيلها منزلة العلم[٩٦]. الثالث: التوفيق العرفي، وهو ما ذهب إليه المحقّق الخراساني، حيث يقول: بأنّ العرف لا يتحيّر في مثل هكذا تعارض، ويقدِّم الأمارات على الأصول بعد ملاحظتهما، ولا يلزم منه محذور تخصيص الأكثر، بينما إذا قدّمنا الأصول على الأمارات لزم منه محذور التخصيص بدون مبرّر[٩٧]. الرابع: إنَّ الأمارات تخصّص الأصول، فالأصول عامّة، وهي من قبيل: (المشكوك حلال) بينما الأمارات من قبيل: (التتن حرام) فهي (الأمارات) أخصّ من الأصول، فتخصّصها[٩٨]. لكن أشكل على التبرير الثالث والرابع بأنّ المراد من الجمع العرفي إمّا كون الأمارات خاصّة بالنسبة إلى الأصول مطلقا، والحال أنّ الواقع ليس كذلك، إذ بينهما عموم وخصوص من وجه أو أنّ المراد كون أدلّتها أظهر من أدلّة الأصول، وهذا لا دليل عليه[٩٩].

النموذج السادس: إذا دار الأمر بين النسخ والتخصيص

ناقش الكثير من الأصوليين موضوع دوران الأمر بين التخصيص والنسخ، ونوقش هذا الموضوع في بحث التخصيص تارة وفي بحث التعارض تارة اُخرى، وفي بعض المصادر نوقش في كلا الموضعين[١٠٠]. ذكر البعض صوراً لهذه المسألة: الاُولى: أن يكون الخاصّ متّصلاً بالعام ومقارنا له زمانا. الثانية : أن يكون الخاصّ بعد العام قبل حضور العمل به. الثالثة: أن يكون الخاصّ بعد العام وبعد حضور وقت العمل به. الرابعة: أن يكون العام بعد الخاصّ وقبل حضور العمل به. الخامسة: أن يكون العام بعد الخاصّ وبعد حضور العمل به[١٠١]. ومن الصور أن يكون الترديد في دليل واحد اشتبه في كونه مخصِّصا أو ناسخا للعام، فإنّ البحث في هذه الصورة غير مثمر بالنسبة إلينا في هذا العصر، ومفيّد بالنسبة إلى من كان في عصر التشريع وصدر الإسلام، فعلى القول بكون الخاصّ ناسخا تصحّ أعمال من عمل وفق العام، وعلى القول بكون الخاصّ مخصِّصا لا ناسخا، فذلك يكشف عن بطلان الأعمال الماضية[١٠٢]. في الصورة الاُولى يحمل على التخصيص؛ لأنّ النسخ رفع الحكم الثابت في الشريعة، والمفروض أنّ العام غير ثابت ليكون الخاصّ رافعا له. وفي الصورة الثانية قد يقال: بعدم جواز التخصيص لاستلزامه تأخير البيان عن وقت الخطاب، لكن يردُّ بجواز تأخير البيان عن وقت الحاجة فضلاً عن تأخيره عن وقت الخطاب. ( خطاب) واختلف في الصورة الثالثة، فقد استدلّ على تعيُّن النسخ فيها بعدم معقولية التخصيص لقبح تأخير البيان عن وقت الحاجة، كما استدلّ على تعيّن التخصيص بوجوه هي نفسها التي أوردوها في الصورة الخامسة. وفي الصورة الرابعة يتعيّن التخصيص؛ لأنّ البناء على النسخ يستلزم لغوية جعل الحكم. الصورة الخامسة هي الواقع فيها جلّ الكلام بين الأصوليين[١٠٣]. الرازي لم يفصّل بين الصورة الثانية والثالثة ولم يقسّم الحالة إلى ما قبل أو بعد حضور وقت العمل بالأمر، فذهب بالإجمال إلى حمل المورد على النسخ. وكذلك فعل بالنسبة إلى الحالة الرابعة والخامسة، وقال بذهاب الحنفية إلى كون العام ناسخا، بينما رأي الشافعية هو التخصيص، ولم يذكر الدليل[١٠٤]. وهكذا فعل بعض متقدّمي الشيعة[١٠٥]. لكنّ الزركشي نقل تفاصيل في هذه المسألة ونقل عن الهندي بأنّ رأي الرازي خاصّ بما إذا ورد بعد حضور وقت العمل بالعام، فإن ورد قبل حضور العمل كان مخصّصا للعام المتقدّم... وأمّا إذا علم بتقدّم الخاصّ على العام فيحمل على التخصيص، ونسب الحمل على النسخ إلى الحنفية[١٠٦]. مثال هذا الدوران: صدور النهي عن بيع الغرر في ابتداء الهجرة، ونزول: «أوفوا بالعقود»[١٠٧] بعد سنين، أو بالعكس، أي صدور الآية أوّلاً وفي ابتداء الهجرة، ثُمّ صدور النهي عن بيع الغرر بعد سنين. فهنا فرضان: الفرض الأوّل: إن قلنا بالتخصيص كانت النتيجة عدم وجوب الوفاء بالبيع الغرري، وإن قلنا بالنسخ، أي كون العام ناسخا للخاصّ كانت النتيجة وجوب الوفاء حتّى في البيع الغرري. الفرض الثاني: إن قلنا بالتخصيص لم يجب الوفاء بالبيع الغرري من الأوّل، وإن قلنا بالنسخ، أي نسخ الخاصّ للعام، لم يجب الوفاء بالعام من حين ورود الخاصّ لا من الأوّل. ذهب المشهور إلى تقديم التخصيص على النسخ مطلقا، لكن ذهب البعض إلى تقديم النسخ على التخصيص مطلقا. استدلّ المشهور على رأيه باُمور: 1 ـ النسخ قليل نادر والتخصيص كثير، فيحمل على الكثير الغالب[١٠٨]. 2 ـ كون الخاصّ أظهر في دوام الحكم واستمراره من العام في العموم الأفرادي[١٠٩]. 3 ـ كون النسخ يتنافى مع ما ورد من كون حلال محمّد حلالاً إلى يوم القيامة وكذا حرامه[١١٠]، وأنّ إطلاقه الأزماني قاضٍ بكون الحكم ثابتا بثبوت الإسلام[١١١]. لكن ردّ الدليل الأوّل حتّى من قبل الذاهبين إلى هذا الرأي؛ وذلك لأنّ الكثرة تفيد الظنّ بالتخصيص ولا توجب الحمل عليه[١١٢]. هذا مع عدم العلم بتقدُّم ورود الخاصّ على حضور وقت العمل بالعام، أمّا مع العلم فيتعيَّن التخصيص؛ لأنّ النسخ حينئذٍ يستلزم البداء المحال على اللّه[١١٣]. أمّا في صورة اقتران ورود الخاصّ والعام، أي ورودهما في زمن واحد، فيتعيّن التخصيص لا لكثرته وندرة النسخ، بل من باب أنّ ورود الخاص مقارنا لورود العام يوجب عدم كاشفية ظهور العام في العموم، ويكون من قبيل ظهور القرينة مع ظهور ذي القرينة[١١٤]. المحقّق الخراساني ممّن ذهب إلى تقديم النسخ على التخصيص، واستدلّ على رأيه هذا بأنّ الأمر هنا من صغريات بحث دوران الأمر بين التقييد والتخصيص، والنسخ هنا يرجع إلى تقييد الإطلاق الزماني الخاصّ، مع أنّ التقييد مقدَّم على التخصيص؛ لأنّ تقديم التخصيص (الخاصّ) متوقّف على ظهور العام في الدوام والاستمرار الزماني، وهو مستفاد من الإطلاق ومقدّمات الحكمة، فيكون معلّقا على عدم البيان، والعموم الأفرادي للعام تنجيزي مستند إلى الوضع فيكون بيانا له[١١٥]. وهناك تفصيلات وصور غير قليلة متصوّرة في المسألة ناقشها بعض الأصوليين[١١٦]، كما أنّه قد تكون آراء مفصّلة بين الصور المزبورة[١١٧].

النموذج السابع: تعارض الإطلاق الشمولي مع الإطلاق البدلي

وهذا التعارض من قبيل قوله: أكرم عالما. وقوله: لا تكرم الفاسق. فإنّ النسبة بينهما عموم وخصوص من وجه، يتلاقيان في (العالم الفاسق). وفي هذا الموضوع رأيان: الأوّل: تقديم الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي. وقد استدلّ على هذا الرأي باُمور: 1 ـ كون مقدّمات الحكمة في الإطلاق الشمولي تمنع عن جريان مقدّمات الحكمة في الإطلاق البدلي؛ لأنّ من مقدّمات الحكمة في الاطلاق البدلي كون الأفراد متساوية الإقدام في تحصيل غرض المولى، فإنّ القتل وشدّة حرمته تختلف من فرد إلى آخر، وقتل الإمام يختلف شدّة عن قتل الإنسان العادي، ومقدّمات الحكمة في الإطلاق الشمولي تمنع عن ذلك، ولا يمكن العكس[١١٨]. 2 ـ أنّ تقديم الإطلاق الشمولي يجتمع مع امتثال الإطلاق البدلي وعدم طرده، بخلاف العكس، فإنّه يوجب نفي بعض مصاديق المطلق الشمولي وترك العمل به[١١٩]. 3 ـ إنَّ حجّية الإطلاق البدلي تتوقّف على عدم المانع في بعض الأفراد عن التخيير العقلي، والإطلاق الشمولي صالح للمانعية، فلو توقّف عدم صلاحيته للمانعية على وجود الإطلاق البدلي لدار[١٢٠]. وهناك أدلّة ونقاشات اُخرى ذكرها البعض في هذا الرأي[١٢١]. الثاني: وهو ما ذهب إليه بعض المتأخّرين من أنّ إعطاء ضابط عام في هذا الباب لا يخلو عن تكلّف، فاللازم التأمُّل في خصوصيات الموارد واستظهار القرائن الواردة في كلّ مورد على حدّة[١٢٢].

النموذج الثامن: دوران الأمر بين التخصيص والمجاز

هذا الدروان يحصل في مثل قوله: لا تكرم الفسّاق، مع قوله: لا بأس بإكرام زيد الفاسق. فكما يمكن رفع اليد عن عموم عدم الإكرام بالتخصيص، كذلك يمكن رفع اليد عن ظهور النهي في الحرمة وحمله على الكراهة، لكي تجتمع مع عدم البأس. يبدو ذهاب المشهور إلى تقديم التخصيص على المجاز مطلقا؛ لكثرة وشيوع التخصيص وقلّة الحمل على المجاز، مضافا إلى أنّ ظهور الكلام في التخصيص أشدّ ظهورا منه في المجاز. لكن قد يقدّم المجاز لقرائن تكتنف بالكلام تقتضي هذا التقديم[١٢٣]. إلاّ أنّه نقل عن البعض التوقّف في بعض الصور، ونسب إلى بعض آخر[١٢٤] التوقّف مطلقا، منهم: الفاضل الهندي، وذلك بناءً على رأيه في التوقّف في مطلق حالات التعارض في أحوال الألفاظ إلاّ عند وجود قرينة[١٢٥]، وكذا صاحب (المعالم)[١٢٦]. وذكر المجدّد الشيرازي عدّة صور للحالة: منها: الدروان بين التخصيص الابتدائي وبين المجاز في لفظ واحد. منها: الدروان بين التخصيص الابتدائي وبين المجاز في لفظين لكن في خطاب واحد. منها: الدروان بين التخصيص الابتدائي وبين المجاز في لفظين وفي خطابين. ويضرب هذه الحالات في حالة كون التخصيص ثانويا، لتتضاعف الحالات. ويبدو منه ترجيحه للتخصيص على المجاز في مجمل هذه الصور[١٢٧]. وذكر محمّد تقي الرازي صورا اُخرى للحالة مع حكمها من وجهة نظره: منها: أن يكون المجاز مشهورا والتخصيص بعيدا مرجوحا، ولا شبهة في ترجيح المجاز فيها. منها: أن يكون التخصيص نادرا ـ كما لو اشتمل على إخراج معظم أفراد العام ـ والظاهر هنا ترجيح المجاز؛ لبعد التخصيص، بل امتناعه بناءً على رأي بعض. منها: أن يكون في المجاز مزية باعثة على رجحانه من غير أن يكون في التخصيص ما يوجب وهنه، فإن كان رجحان المجاز من جهة شهرته، بحيث بلغت شهرته مستوى ترجّحه على الحقيقة فلا شبهة في ترجيح المجاز وإلاّ ففي ترجيحه على التخصيص إشكال. منها: أن يكون المجاز نادرا والتخصيص اللازم كذلك، فقد يُرجّح التخصيص لغلبة نوعه، لكن الأظهر الرجوع إلى ما هو الظاهر في المقام بلحاظ ما لدينا من قرائن، ومع التكافؤ يتوقّف في المقام[١٢٨].

النموذج التاسع: تعارض العموم الوضعي مع العموم الإطلاقي

قد يتعارض العموم الوضعي مع الإطلاق، بحيث تكون النسبة بينهما عموم وخصوص من وجه، فيدور الأمر عندئذٍ بين تقييد المطلق وتخصيص العموم، وقد يعبَّر عن هذا التعارض بدوران الأمر بين التخصيص والتقييد، وهو من قبيل قوله: أكرم عالما، ثُمّ قوله: لا تكرم الفسّاق. فيقع التعارض في العالم الفاسق؛ باعتبار أنّ العالم مطلق وشامل للعادل والفاسق، والفساق جمع محلّى باللام يدلّ على عموم الحكم لجميع أفراد الفاسق. ورد في هذا التعارض قولان: الأوّل: تقديم التقييد على التخصيص، واستدلّ له بوجوه: منها: كون التقييد أغلب من التخصيص[١٢٩]. منها: كون ظهور الإطلاق تعليقيا، أي أنّه معلَّق على بيان التقليد؛ بينما ظهور العام تنجيزي ومستند إلى الوضع، فيكون ظهور العام بيانا للتقييد وليس للمطلق ظهور في حدّ ذاته. ردّ الوجه الأوّل: بأنّه لا غلبة للتقييد على التخصيص، وكلاهما بمستوى واحد. وردّ الوجه الثاني: بأنّه مبني على كون الإطلاق معلّقا إلى الأبد، بينما هو معلّق على عدم البيان في مقام التخاطب. لكنّ المحقّق النائيني يذهب إلى التعليق المطلق، أي إلى الأبد[١٣٠]، إلاّ أنّه نقل عن المحقّق الخراساني قوله: بأنّ هذا يستلزم جمع كلمات المعصومين وفرضها صادرة في مجلس واحد لكي يستحصل الإطلاق[١٣١]. الثاني: ملاحظة المقامات المختلفة والخصوصيات والقرائن التي تحفُّ بالمورد ويقدّم أحدهما على الآخر وفق تلك القرائن، ولا يمكن تقديم ضابطة كلّية هنا، وإذا لم تقتضِ القرائن شيئا من التقديم يصل الدور إلى المرجّحات الاُخرى[١٣٢].

النموذج العاشر: دوران الأمر بين التصرّف في منطوق أحد الخبرين ومفهوم الآخر

وهذا الصنف من التعارض يحصل في مورد من قبيل قوله: «إذا خفي الأذان فقصّر» وقوله: «إذا خفيت الجدران فقصّر» فعلى فرض قبول مفهوم الشرط يقع تعارض بين مفهوم كلٍّ منهما ومنطوق الآخر. لقد ذكرت عدّة طرق لحلّ هذا التعارض: منها: تقييد مفهوم كلٍّ منهما بمنطوق الآخر، ولازمه كفاية أحد الأمرين في حصول حدّ الترخيص. منها: تقييد إطلاق منطوق كلٍّ منهما بمنطوق الآخر، ولازمه اعتبار خفاء الأذان والجدران معا في وجوب التقصير. والأمر يعود إلى البحث في أنَّ أيّا أقوى ظهورا، المنطوق أم المفهوم؟ فإذا قلنا بكون المنطوق أقوى ظهورا، كما يذهب إلى ذلك الكثير، بل يطلقها إطلاق المسلّمات التي يستدلّ بها[١٣٣]، تعيّن تقييد مفهوم كلٍّ منهما بمنطوق الآخر، وإن قلنا بكون المفهوم أقوى ظهورا تعيّن تقييد إطلاق منطوق كلٍّ منهما بمفهوم الآخر، وإلاّ فلا ترجيح لأحدهما على الآخر[١٣٤]. واستدلّ على أقوائية كلٍّ منهما باعتبارات خاصّة، من قبيل: كون دلالة المنطوق أقوى؛ لأنّ دلالة اللفظ عليه أصلية بينما دلالة اللفظ على المفهوم تبعية. كما استدلّ على أقوائية دلالة المفهوم، باعتبار أنّ دلالة اللفظ على المفهوم عقلية، بينما دلالته على المنطوق لفظية، ولا يمكن رفع اليد عن الدلالة العقلية[١٣٥]. قد يقال: بأنّ المنطوق أقوى ظهورا، باعتبار أنّ الكلام سيق لبيان المنطوق، والمفهوم أمر تبعي. لكن رُدّ هذا بأنّه كلام بلا دليل وقد يساق الكلام لبيان المفهوم، كما لو قيل: سافر إن كان الطريق آمنا. فالمراد بيان عدم السفر عند انعدام الأمان. ويرى البعض: إنّ المقامات مختلفة وينبغي البحث عن القرائن المكتنفة بالكلام لاستخلاص النتيجة، ولا يمكن ذكر ضابطة كلّية هنا[١٣٦].

المصادر

  1. . المصباح المنير: 402 ـ 404.
  2. . المصدر السابق: 404.
  3. . الصحاح 3: 1082.
  4. . التقرير والتحبير 3: 3.
  5. . تقويم الأدلّة: 214، التحبير شرح التحرير 8: 4126، البحر المحيط 6: 109.
  6. . تقريرات المجدد الشيرازي 4: 148، نهاية الأفكار العراقي 4 ق 2 : 124.
  7. . منتقى الأصول 7: 279.
  8. . فرائد الأصول 4: 11 ـ 12.
  9. . منتهى الأصول 2: 550 ـ 551.
  10. . فرائد الأصول 4: 11، مقالات الأصول 2: 455.
  11. . كفاية الأصول: 437.
  12. . عناية الأصول في شرح كفاية الأصول 6: 4.
  13. . أصول الفقه المظفر 3 ـ 4: 213.
  14. . أنوار الأصول 3: 447.
  15. . بحوث في علم الأصول 7: 22 ـ 23.
  16. . أصول الفقه الإسلامي الزحيلي 2: 1173.
  17. . نهاية الوصول الحلّي 5: 296 ـ 297، الوافية: 321 ـ 322.
  18. . المستصفى 2: 244 ـ 245، أصول الفقه الإسلامي الزحيلي 2: 1176 فما بعدها.
  19. . كفاية الأصول: 437 ـ 438، مصباح الأصول 3: 347 ـ 353.
  20. . أنظر: الوافية: 319، فرائد الأصول 4: 11، فوائد الأصول 4: 699.
  21. . المستصفى 2: 244.
  22. . النساء: 76.
  23. . الفتح: 10.
  24. . شرح نهاية السؤل على منهاج الأصول 3: 256.
  25. . التعارض والترجيح بين الأدلّة الشرعيه 1: 58 ـ 113، مصادر التشريع ومنهج الاستدلال: 487 ـ 490.
  26. . إرشاد الفحول 2: 381.
  27. . النساء: 82.
  28. . مصادر التشريع ومنهج الاستدلال: 519 ـ 521.
  29. . بحوث في علم الأصول الهاشمي 7: 29.
  30. . أصول الفقه الإسلامي الزحيلي 2: 1174، أصول الفقه الإسلامي (شلبي): 523.
  31. . الموافقات 4: 294.
  32. . مصادر التشريع ومنهج الاستدلال والتلقي: 488.
  33. . بحوث في علم الأصول الهاشمي 7: 28 ـ 42.
  34. . التعارض والترجيح بين الأدلّة الشرعية 1: 321 ـ 335، أنظر: مصادر التشريع ومنهج الاستدلال : 490، التعارض والترجيح الحفناوي : 11 ـ 15.
  35. . كتاب التعارض: 104.
  36. . مفاتيح الأصول: 680، أنوار الأصول 3: 465 ـ 466، أصول الفقه الزحيلي 2: 1175.
  37. . مبادئ الوصول الحلّي: 230.
  38. . مصادر التشريع ومنهج الاستدلال: 507.
  39. . أنوار الأصول 3: 465 ـ 466.
  40. . أنيس المجتهدين 2: 973.
  41. . المستصفى 2: 244.
  42. . نهاية الوصول الحلّي 5: 289 ـ 290، مفاتيح الأصول: 680.
  43. . المستصفى 2: 244، أصول الفقه الخضري بك: 359، أصول الفقه (الزحيلي) 2: 1175.
  44. . أصول الفقه الزحيلي 2: 1175.
  45. . العدة الطوسي 1: 143 ـ 155، معارج الأصول: 154 ـ 158، زبدة الأصول (البهائي): 169 ـ 172.
  46. . معالم الدين: 249 ـ 256.
  47. . التعارض والترجيح الحفناوي: 107 ـ 108.
  48. . البحر المحيط 6: 109 ـ 110، أنظر: تقويم الأدلّة: 214، إرشاد الفحول 2: 361 ـ 364، أصول الفقه الإسلامي شلبي: 524.
  49. . التعارض والترجيح بين الأدلّة الشرعية 1: 244 ـ 257، أصول الفقه الإسلامي مطلوب: 443 ـ 444، المختصر الوافي: 243، أصول الفقه (شلبي): 524.
  50. . أصول الفقه المظفر 3 ـ 4: 211 ـ 214.
  51. . كتاب التعارض اليزدي: 42.
  52. . بحوث في علم الأصول الهاشمي 7: 207 ـ 213.
  53. . مصباح الأصول 3: 347 ـ 355، بحوث في علم الأصول 7: 14 ـ 17، المحكم في أصول الفقه 6: 48 ـ 72.
  54. . كفاية الأصول: 437 ـ 438.
  55. . أنوار الأصول 3: 451 ـ 453، عناية الأصول 6: 8 ـ 9.
  56. . البحر المحيط 6: 111 ـ 112، المختصر الوافي: 244 ـ 245.
  57. . أنظر: الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 463 ـ 464، البحر المحيط 6: 111، الوافية: 321 ـ 323.
  58. . نهاية الدراية الصدر: 28، دروس في علم الأصول 2: 537.
  59. . بحوث في علم الأصول الهاشمي 7: 219.
  60. . المحكم في أصول الفقه 6: 129 ـ 131.
  61. . مستمسك العروة الوثقى 2: 265.
  62. . دروس في علم الأصول 2: 530.
  63. . المصدر السابق.
  64. . منتهى الدراية الشوشتري 10: 60، تهذيب الأصول 1: 517.
  65. . الرافد في علم الأصول: 55 ـ 56.
  66. . دروس في علم الأصول 2: 563، بحوث في علم الأصول الهاشمي 7: 223 و 225.
  67. . تحريرات في الأصول 7: 357، مصباح الأصول 3: 390، المحكم في أصول الفقه 6: 263 ـ 264 و 283، بحوث في علم الأصول الهاشمي 7: 21.
  68. . منتقى الأصول 7: 360، در المنضود 1: 273، شرح العروة الوثقى الصدر 1: 490 ـ 491.
  69. . فواتح الرحموت 2: 195، التقرير والتحبير 3: 3، المستصفى 2: 139، التعارض والترجيح بين الأدلة 1: 265 ـ 299، بحوث في التعارض والترجيح: 10 ـ 15، مصادر التشريع ومنهج الاستدلال: 491، أصول الفقه الإسلامي شلبي: 527 ـ 528، المختصر الوافي في أصول الفقه: 247 ـ 251.
  70. . العدّة الطوسي 1: 143 ـ 155، معارج الأصول: 154 ـ 158، نهاية الوصول (الحلّي) 5: 276 ـ 365، زبدة الأصول (البهائي): 169 ـ 172، الوافية: 319 ـ 339.
  71. . معالم الدين: 249.
  72. . بحوث في علم الأصول الهاشمي 7: 45.
  73. . درر الفوائد 2: 645، إفاضة العوائد 2: 356، كتاب التعارض: 114 ـ 211، اصطلاحات الأصول: 193، دروس في علم الأصول 2: 535 و2: 544.
  74. . التعارض والترجيح بين الأدلّة الشرعية 1: 348 ـ 384.
  75. . فوائد الأصول 3: 255 و 264، منتهى الأصول 2: 564 ـ 565، نهاية الأفكار 5: 125، أصول الفقه المظفر 3 ـ 4: 234.
  76. . فرائد الأصول 4: 73 و 119 و 136، نهاية الدراية 5 ـ 6: 298، إفاضة العوائد 2: 354.
  77. . نهاية الأفكار العراقي ج4، ق2: 131 و 139 و 159، منتهى الأصول 2: 565، محاضرات في أصول الفقه 2: 339.
  78. . بلغة الفقيه 3: 59، أصول الفقه المظفر 3 ـ 4: 231 و3 ـ 4: 234.
  79. . تحريرات في الأصول 2: 98 و 3: 362، تهذيب الأصول 1: 389.
  80. . المحكم في أصول الفقه 6: 78 ـ 79 و 89، عناية الأصول 6: 11، كتاب الصلاة الآملي: 335، نهاية النهاية 2: 243.
  81. . أنوار الأصول 3: 455.
  82. . منتهى الأصول 2: 565، أصول الفقه المظفر 3 ـ 4: 230، أجود التقريرات 4: 290، زبدة الأصول (الروحاني) 4: 330.
  83. . تهذيب الأصول 1: 539، مناهج الوصول إلى علم الأصول 2: 335، منتهى الدراية 9: 499.
  84. . فقه الصادق 8: 92 و199 ـ 200 و10: 453 و11: 60 و69، منتهى الدراية 6: 383 و9: 569.
  85. . تقريرات المجدد الشيرازي 1: 175 ـ 209، هداية المسترشدين 1: 290 ـ 333، تعليقة على معالم الأصول 2: 204 ـ 228، التعارض والترجيح بين الأدلّة 2: 113 ـ 771.
  86. . سنن الترمذي 3: 283 كتاب الحج باب 102 ح947، سنن النسائي 5: 226 كتاب مناسك الحجّ باب طواف القارن.
  87. . سنن الدارقطني 2: 258 كتاب الحجّ باب المواقيت ح99 و130 و263، كنز العمال 5: 160 كتاب الحجّ باب القران ح12461.
  88. . العدَّة في أصول الفقه الطوسي 2: 589، الذريعة 2: 595، معارج الأُصول: 121، الأحكام (الآمدي) 1 ـ 2: 163 ـ 167، البحر المحيط 4: 196، إرشاد الفحول 1: 177، التعارض والترجيح بين الأدلّة 2: 312 ـ 321، المختصر الوافي في أصول الفقه: 246 ـ 247.
  89. . المعتمد 1: 359، معارج الأُصول: 121.
  90. . الذريعة 2: 593 ـ 594، المحصول ابن العربي: 111، المنخول: 227، البحر المحيط 4: 192، المختصر الوافي في أصول الفقه: 245 ـ 246.
  91. . أنظر: عوائد الأيّام: 349 ـ 353، فرائد الأصول 4: 111، أجود التقريرات 4: 300 وما بعدها، مصباح الأصول 3: 386، كفاية الأصول: 452، دُرر الفوائد 1 ـ 2: 681 ـ 683، بحوث في علم الأصول الهاشمي 7: 288.
  92. . فرائد الأصول 4: 12 ـ 13، كتاب التعارض: 77.
  93. . كتاب التعارض: 89 ـ 90، المحكم في أصول الفقه 6: 111 ـ 112.
  94. . فرائد الأصول 4: 13.
  95. . تقريرات المجدّد الشيرازي 4: 183 و 188.
  96. . كتاب التعارض: 84 ـ 85، المحكم في أصول الفقه 6: 111 ـ 118، نهاية الدراية الغروي 5 ـ 6: 277 ـ 281.
  97. . كفاية الأصول: 348.
  98. . كتاب التعارض: 90 ـ 92.
  99. . أنوار الأصول 3: 450.
  100. . نهاية الدراية في شرح الكفاية 5 ـ 6: 345 و5 ـ 6: 345، تسديد الأصول 1: 533 و2: 500، زبدة الأصول الروحاني 4: 389.
  101. . زبدة الأصول الروحاني 2: 373.
  102. . مصباح الأصول 3: 381 ـ 382.
  103. . زبدة الأصول 2: 373.
  104. . المحصول الرازي 2: 453.
  105. . نهاية الوصول الحلّي 5: 299.
  106. . البحر المحيط 6: 143.
  107. . المائدة: 1.
  108. . تعليقة على معالم الأصول 2: 216، درر الفوائد 1 ـ 2: 681.
  109. . تعليقة على معالم الأصول 2: 216.
  110. . درر الفوائد 1 ـ 2: 681، إفاضة العوائد 2: 392.
  111. . تسديد الأصول 1: 533 ـ 534 و 2: 500 ـ 507.
  112. . كفاية الأصول: 450.
  113. . تعليقة على معالم الأصول 2: 216.
  114. . منتهى الأصول 2: 570 ـ 571.
  115. . كفاية الأصول: 450.
  116. . منتهى الأصول 2: 570 ـ 577.
  117. . نهاية الأفكار البروجردي 5: 151 ـ 155، مصباح الأصول 3: 381 ـ 386، المحكم في أصول الفقه 6: 83 ـ 86.
  118. . فوائد الأصول 4: 732، مصباح الأصول 3: 379 ـ 380.
  119. . أنوار الأصول 3: 457.
  120. . المحكم في أصول الفقه 6: 94.
  121. . مصباح الأصول 3: 378 ـ 381.
  122. . المحكم في أصول الفقه 6: 92 ـ 96.
  123. . الفصول الغروية: 40، أنوار الأصول 3: 462.
  124. . تقريرات المجدد الشيرازي 1: 198 ـ 199.
  125. . الوافية: 61.
  126. . معالم الدين ابن الشهيد الثاني: 139.
  127. . تقريرات المجدد الشيرازي 1: 200 ـ 202.
  128. . هداية المسترشدين 1: 311 ـ 312.
  129. . فرائد الأصول 4: 98، فوائد الأصول 4: 730 ـ 731، زبدة الأصول الروحاني 4: 388.
  130. . فوائد الأصول 4: 731.
  131. . أنوار الأصول 3: 456.
  132. . المحكم في أصول الفقه 6: 89، أنوار الأصول 3: 456.
  133. . المحصول الرازي 2: 464، نهاية الوصول (الحلّي) 5: 316، نهاية الأحكام (الحلّي) 2: 512، معالم الدين (ابن الشهيد الثاني): 140، الحدائق الناضرة 3: 246.
  134. . أنوار الأصول 3: 461 ـ 462.
  135. . زبدة الأصول الروحاني 2: 357 ـ 362.
  136. . أنوار الأصول 3: 461 ـ 462.