الاستثناء

من ویکي‌وحدت

الاستثناء اصطلاح في أصول الفقه بمعنی إخراج الشئ عما يصحّ دخوله فيه ودالّ على أنَّ المذكور فيه لم يُرَد بالقول الأوّل.

تعريف الاستثناء لغةً

الاستثناء من ثَنَيْت الشيءَ أثنيه ثنيا، من باب رمى، إذا عطفته ورددته. وثنيته عن مراده: إذا صرفته عنه وعدلته. [١]. وقد يكون من باب ثنّيت الشيءَ (بالتشديد) بمعنى: جعلته اثنين، وكأنَّه بالاستثناء ثنَّى الكلام وجعله اثنين[٢]، كما نسب هذا إلى بعض الأصوليين. [٣]

تعريف الاستثناء اصطلاحاً

ذكر له عدّة تعريفات: ـ إخراج الشيء عمّا يصحّ دخوله فيه، وعمّا دخل فيه غيره. [٤] ـ هو قول ذو صيغ مخصوصة محصورة، دالّ على أنَّ المذكور فيه لم يُرَد بالقول الأوّل. [٥] ـ إخراج بعض الجملة منها، بلفظ إلاَّ أو ما يقوم مقامها. [٦]

ـ الإخراج بإلاَّ أو إحدى أخواتها من متكلّم واحد. [٧] وقريب منه تعريف الشهيد الثاني له[٨]: تخصيص بعض الشيء من جملته، أو إخراج شيء ممَّا أدخلت فيه شيئا آخر. [٩] وقد اعتاد النحويون إطلاق التخصيص على ما كان خبرا من خبر، من قبيل: (اقتل القوم، ودع زيدا)، لكنّه لايُدعى استثناءً عند الأصوليين، بل تخصيصا وإن كانت النتيجة واحدة. [١٠] وهذه التعريفات تكشف عن اتّحاد المعنى لدى الأصوليين والنحاة، وإن اختلفوا في استثناء المشيئة؛ إذ يعدّه بعض الأصوليين استثناءً، دون النحاة، ويأتي الحديث عن استثناء المشيئة.

الاستثناء يخرج ما صحَّ دخوله أو ما وجب؟

ذهب بعض مثل السيد المرتضى إلى: أنّ المعروف عند أهل اللغة كون الاستثناء يخرج ما صحَّ أو صلح دخوله في المستثنى منه دون ما وجب دخوله فيه، ففي المثال: «من دخل داري أكرمته» يجوز استثناء أي عاقل، ولايجوز استثناء حيوان برغم أنّ الداخل قد يكون حيوانا؛ وذلك لأنَّه غير حسن. [١١] بينما ذهب بعض آخر مثل الشيخ الطوسي إلى: أنّ الاستثناء يخرج ما وجب دخوله، واستدلّ باستحسانات لغوية، من قبيل المثال: «من دخل داري ضربته» فلا يستحسن السؤال: «وإن دخلها نبي؟» أو «وإن دخلها أبوك؟» برغم أنّ النبيّ والأب صالحان في الدخول في (من دخل). واستدلَّ كذلك بحسن الاستثناء من الأعداد، فيقال: «أعطِ فلانا عشرة دراهم إلاّ واحداً» ولولا الاستثناء لوجب إعطاء العشرة كلّها، ويقال بالوجوب؛ صونا للفظ من الاشتراك[١٢]، لكن المحقق الحلي يرفض رأيه باستحسانات أخرى[١٣]، والأمر عموما يعود إلى استحسانات أهل اللغة.

صيغ الاستثناء

للاستثناء صيغتان: إحداهما متفق عليها، والأخرى اختلف فيها الأصوليون: الأولى: الاستثناء بإحدى الألفاظ التالية: إلاَّ، وغير، وسوى، وعدا، وليس، ولايكون، وحاشا، وخلا. [١٤] والأخرى: الاستثناء بالمشيئة وما شابهها في مثل قوله تعالى: «وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدا * إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ»[١٥] فيُدعى هذا الاستثناء استثناء مشيئة؛ باعتبار توقّفه على مشيئة اللّه‏، ولايكون حاصلاً في الخارج بنحو قطعي إلاّ بعد المشيئة. وقد اختُلِفَ في دخوله في الاستثناء، ومنهم من منعه، واحتجَّ بأنَّه لو قال: «أنت طالق ثلاثا إن شاء اللّه»، لم يقع، خلافا لمالك، في حين إذا قال: «أنتِ طالق ثلاثا إلاَّ ثلاثا» وقع، فدلَّ على أنَّه ليس باستثناء. [١٦]

شروط الاستثناء

ذكرت عدة شروط للاستثناء اختلف الاصوليون فيها: الأوّل: أن يكون الاستثناء متّصلاً بالكلام، وحُكِيَ عن ابن عبّاس أنَّه كان يذهب إلى أنَّه يجوز تأخيره عن حال الخطاب، أي زمان حصوله[١٧]، وهو ضعيف غير صحيح. [١٨] احتجَّ القائلون بشرط الاتّصال بالأمور التالية: أ: ما رُوِي عن النبيّ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله أنَّه قال: «من حلف على شيء فرأى غيره خيرا منه، فليأتِ الذي هو خير، وليكفّر عن يمينه»[١٩]، ولو كان الاستثناء المنفصل صحيحا، لأرشد النبيّ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله إليه؛ لكونه طريقا مخلصا للحالف عند تأمُّل الخير. ب: أنَّ أهل اللغة لايعدّون ذلك كلاما منتظما. ج: أنَّه لو قيل بصحّة الاستثناء المنفصل، لما عُلِمَ صدق صادق، ولا كذب كاذب، ولا حصل وثوق بيمين، ولا وعد ولا وعيد، ولا حصل الجزم بصحّة عقد نكاح وبيع وإجارة، ولا لزوم معاملة أصلاً؛ لإمكان الاستثناء المنفصل ولو بعد حين. [٢٠] الثاني: أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه، كقوله: «رأيت الناس إلاَّ زيدا»، ولا تقول: «رأيت الناس إلاَّ حمارا» [٢١]، وأجازه الحنفية والمالكية[٢٢]، بل بعض الشافعية[٢٣] و الشهيد الثاني من الإمامية. [٢٤] وذكر الفقهاء اختلاف الشافعي وأبي حنيفة في الرجل إذا قال: «لفلان عليَّ ألف درهم إلاَّ ثوبا»، ثمَّ ذكر ثوبا لايستغرق قيمة الألف المذكورة، وذكر وجها معقولاً في استثناء قيمة الثوب من الألف، وجعل ذكر الثوب عبارة عن قيمته، فهذا مقبول عند الشافعي، ومردود عند أبي حنيفة. وسوَّغ أبوحنيفة استثناء المكيل بعضه من بعض وإن اختلفت الأجناس، ردّا إلى التأويل الذي ذكره الشافعي في الثوب، وكذلك جوَّز استثناء المكيل من الموزون، والموزون من المكيل. [٢٥] القائلون بصحّة الاستثناء من غير جنس المستثنى احتجّوا بالمنقول والمعقول: أمَّا المنقول، فما ورد من آيات تستثني إبليس من الملائكة[٢٦]، وكذلك الآية الكريمة: «لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوا وَلاَ تَأْثِيما * إِلاَّ قِيلاً سَلاَما سَلاَما».[٢٧] وبعض أبيات الشعر مثل قول الشاعر: «وبلدةٍ ليس بها أنيسُ؛ إلاَّ اليعافيرُ وإلاَّ العيسُ». وكذا كلام العرب مثل: «ما بالدار أحد إلاَّ الوتد». وأمّا المعقول، فقد استدلّوا بأنّ الاستثناء لايرفع جميع المستثنى منه، فصحَّ، كاستثناء الدراهم من الدنانير وبالعكس. [٢٨] والنافون للصحّة أوّلوا الأمثلة المتقدّم ذكرها، وقدّروا فيها ما يجعل المستثنى والمستثنى منه من جنس واحد. وردّوا ما ذكر من دليل المعقول: بأنَّ دليلهم لا إشعار له بصحّة الاستثناء من غير جنس، واستثناء الدراهم من الدنانير وبالعكس ممَّا وقع النزاع فيه. [٢٩] الثالث: أن لايكون مستغرقا، فلو قال: «لفلان عليَّ عشرة إلاَّ عشرة» بطل الاستثناء، ولزمته العشرة؛ لأنَّه رفع للإقرار، والإقرار لايجوز رفعه. [٣٠] والاستثناء إذا كان مستغرقا باطلٌ بالإجماع. [٣١] وفصَّل الحنفية في المستغرق: فإن كان بلفظ الصدر، نحو: «لفلان عليَ عشرةٌ إلاّ عشرة»، أو بما يساويه في المفهوم، نحو: «عبيدي أحرار إلاّ مماليكى»، فهو باطل. وإن كان بغير ذلك، نحو: «عبيدي أحرار إلاّ هولاء» وأشار إلى عبيده الموجودين، لم يمتنع. [٣٢] ويبدو أنَّ حجّة القائلين بهذا الشرط استلزام الاستثناء المستغرق بطلان الكلام ولغويته. [٣٣]

المصادر

  1. لسان العرب 1 : 500، مادّة «ثني»، مجمع البحرين 1 : 76 ـ 77، مادّة «ثنا».
  2. مجمع البحرين 1 : 77، مادة «ثنا» وانظر : المصباح المنير : 85 مادة «ثني».
  3. انظر : اللمع : 95، الكاشف عن المحصول 4 : 431، شرح الكوكب المنير : 183.
  4. رسائل الشريف المرتضى 2 : 263.
  5. انظر : العدّة في أصول الفقه أبو يعلى 1 : 406، إحكام الفصول : 273، المستصفى 2 : 74، الواضح في أصول الفقه 4 ق1 : 469، روضة الناظر : 132، أصول الفقه (ابن مفلح) 3 : 894 .
  6. انظر : المحصول 1 : 406، منتهى الوصول ابن الحاجب : 122، الحاصل من المحصول 2 : 336، التحصيل من المحصول 1 : 373، البلبل في أصول الفقه : 67، مبادئ الوصول : 132، القواعد والفوائد الأصولية : 325.
  7. جمع الجوامع 2 : 15، البحر المحيط 3 : 275.
  8. تمهيد القواعد : 192.
  9. الإحكام ابن حزم 1 ـ 4 : 420.
  10. المصدر السابق.
  11. الذريعة 1 : 219.
  12. العدّة في أصول الفقه 1 : 281 ـ 284.
  13. معارج الأصول : 92.
  14. المستصفى 2 : 74، وانظر : روضة الناظر : 132، شرح تنقيح الفصول : 238، كشف الأسرار البخاري 2 : 357، شرح الكوكب المنير : 183 ـ 184، أصول الفقه (محمد أبو النور) 1 ـ 2 : 451، ابن قدامة وآثاره الأصولية 2 : 252.
  15. الكهف : 23ـ24.
  16. انظر : الكاشف عن المحصول 4 : 436، البحر المحيط 3 : 324.
  17. انظر : العدّة في أصول الفقه الطوسي 1 : 313 ـ 314، المنخول : 157، المستصفى 2 : 74 ـ 75، ميزان الأصول 1 : 455 ـ 456، نهاية الوصول (العلاّمة الحلّي) 2 : 237، تمهيد القواعد : 195.
  18. الوجيز في أصول التشريع الإسلامي : 183.
  19. سنن الترمذي 4 : 106، 107 كتاب النذور والأيمان، باب 5 ما جاء فيمن حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها ح1529، 1530، وسنن البيهقي 10 :31 ـ 33 كتاب الأيمان، باب من حلف على شيء فرأى خيرا منه.
  20. العدّة في أصول الفقه الطوسي 1 : 314، الإحكام (الآمدي) 1 ـ 2: 494.
  21. المستصفى 2 : 75.
  22. انظر : المسوّدة : 139.
  23. انظر : الواضح في أصول الفقه 4 ق1 : 482، روضة الناظر : 132، البلبل في اُصول الفقه : 67، ابن قدامة وآثاره الأصولية 2 : 253.
  24. انظر : تمهيد القواعد : 196.
  25. البرهان في أصول الفقه 1 : 144، وانظر : المنخول : 159.
  26. البقرة : 34، الأعراف : 11، الحجر : 30 ـ 31، الإسراء : 61، الكهف : 50، طه : 116، ص : 73 ـ 74.
  27. الواقعة : 25 ـ 26.
  28. انظر : روضة الناظر : 132 ـ 133، الإحكام الآمدي 1 ـ 2 : 498 ـ 499، نهاية الوصول (العلاّمة الحلّي) 2 : 243 ـ 245.
  29. الإحكام الآمدي 1 ـ 2 : 499 ـ 501، نهاية الوصول (العلاّمة الحلّي) 2 : 245 ـ 248.
  30. المستصفى 2 : 76، نهاية الوصول العلاّمة الحلّي 2 : 248، أصول الفقه (الخضري بك) : 178.
  31. انظر : المحصول 1 : 410، الكاشف عن المحصول 4 : 445، تمهيد القواعد : 200، العقد المنظوم : 606، أصول الفقه ابن مفلح 3 : 912، البحر المحيط 3 : 287، القواعد والفوائد الأصولية : 327، إرشاد الفحول 1 : 489 ـ 490.
  32. سلّم الوصول المطيعي 2 : 411، وانظر : التوضيح شرح التنقيح 2 : 86 ـ 87 ، أصول الفقه (الخضري بك) : 178.
  33. انظر : البرهان في أصول الفقه 1 : 143.